طارد الأرواح The Pope’s Exorcist

طارد الأرواح البابوي: بين الحقيقة والخيال في دهاليز الفاتيكان

يُعد فيلم The Pope’s Exorcist أو “طارد الأرواح البابوي” واحداً من أكثر الأعمال السينمائية إثارة للجدل في عام 2023، نظراً لتناوله موضوعات شديدة الحساسية تمس المؤسسة الكاثوليكية العريقة من جهة، والخرافات والأساطير المرتبطة بعالم طرد الأرواح والظواهر ما وراء الطبيعة من جهة أخرى. مستوحى من الملفات الحقيقية للأب غابرييلي آمورث، كبير طاردي الأرواح المعين من قبل الفاتيكان، يعرض الفيلم قصةً درامية تجمع بين الغموض، الرعب، والنقد غير المباشر لتاريخ الكنيسة الكاثوليكية، متوغلاً في مناطق ظلت في الظل لقرون.

الفيلم الذي أنتجته شركات عالمية عدة من بينها Screen Gems و2.0 Entertainment، وبلغت ميزانيته حوالي 18 مليون دولار، استطاع أن يحقق إيرادات تجاوزت 65 مليون دولار، مما يعكس مدى الجاذبية التي تشد بها موضوعاته الجمهور العالمي، خاصةً في ظل تزايد الإقبال على أفلام الرعب المرتبطة بالدين والماورائيات.

الأب غابرييلي آمورث: بين الواقع والدراما

الشخصية المحورية في الفيلم، الأب غابرييلي آمورث، ليست خيالية، بل هي مأخوذة من شخصية حقيقية شغلت منصب كبير طاردي الأرواح في الفاتيكان حتى وفاته عام 2016. كتب آمورث العديد من الكتب عن تجربته في طرد الأرواح، وادعى أنه أجرى أكثر من 70 ألف جلسة طرد خلال حياته المهنية. تعتبر هذه الأرقام محل جدل، لكن لا يمكن إنكار أن تجربته تُعد فريدة في عالم قلّما يسمح بالكشف عن تفاصيله للعموم.

يجسد شخصية آمورث في الفيلم النجم الحائز على الأوسكار راسل كرو، الذي استطاع ببراعة أن ينقل تعقيدات شخصية رجل الدين الذي يقف على الحافة بين العلم والإيمان، الشك واليقين، الواقعي والميتافيزيقي. من خلال الأداء التمثيلي المتقن، يُظهر الفيلم كيف أن آمورث ليس فقط طارد أرواح، بل أيضاً محقق، فيلسوف، ورجل يتحمل عبء أسرار ثقيلة تخبئها المؤسسة التي يخدمها.

الحبكة السينمائية: مؤامرة عمرها قرون

تدور أحداث الفيلم في عام 1987، حين يتم استدعاء الأب آمورث للتحقيق في حالة فتى صغير تعرض لمسّ شيطاني في دير إسباني قديم. في البداية، يبدو الأمر تقليدياً بالنسبة له، لكنه سرعان ما يكتشف أن وراء هذه الحالة تسكن أسرار أعمق تتعلق بتاريخ الفاتيكان ذاته، وخصوصاً بمؤامرة تعود لقرون كانت المؤسسة تسعى جاهدة لإخفائها.

يستند الفيلم على عناصر كلاسيكية في أفلام الرعب مثل الأصوات الغامضة، التحولات الجسدية، الأحلام المفزعة، والطقوس الدينية القديمة، لكنه يتجاوز هذا الإطار ليندمج مع حبكة بوليسية تاريخية، توظف إشارات إلى التواطؤ، الخيانة، والتلاعب بالسلطة من داخل المؤسسة الكنسية. ومن خلال ذلك، يُقدم الفيلم رؤية ناقدة وغير نمطية عن الصراع بين الخير والشر، ليس فقط كقوى خارجية، بل كصراع داخلي ضمن الإنسان نفسه.

الخلفية الزمنية والمكانية: ثمانينات أوروبا الكاثوليكية

اختيار عام 1987 لتكون الخلفية الزمنية للأحداث ليس اعتباطياً، بل إنه يتقاطع مع مرحلة شهدت تجدد النقاش داخل الكنيسة حول دور طرد الأرواح. في هذا العقد، بدأت تتزايد الأصوات التي تطالب الكنيسة بتحديث تعاليمها، ما أدى إلى صدامات فكرية داخل أروقتها. كما أن أوروبا، وخصوصاً إيطاليا وإسبانيا، كانت مسرحاً لمزيج من التقدم العلماني والانغماس في التقاليد الكاثوليكية، مما جعلها تربة خصبة لصراعات بين الحداثة والموروث الديني.

تنتقل أحداث الفيلم بين روما، حيث مقر الفاتيكان والكرسي الرسولي، وبين قرية نائية في إسبانيا، حيث يقع الدير الذي يحتضن الفتى الممسوس. هذا التباين المكاني بين مركز السلطة الدينية والهامش المظلم يعكس الثنائية التي يسعى الفيلم لاستكشافها: العلن والسر، الطهر والفساد، الدين والسياسة.

الرمزية والدلالات اللاهوتية

يحفل الفيلم بالرموز ذات الأبعاد اللاهوتية والميتافيزيقية. فالشخصيات لا تتحرك فقط بدوافع دنيوية، بل تتشابك مع مفاهيم مثل الخطيئة الأصلية، التوبة، الخلاص، والعقاب الإلهي. الفتى الممسوس، في كثير من لحظات الفيلم، يتحول إلى رمز للإنسانية المعذبة التي تبحث عن مغفرة، في حين أن الشيطان لا يظهر فقط ككائن خارجي، بل كقوة تتغذى على الضعف والسر المكنون.

كما يبرز الفيلم الصراع بين العقل والإيمان، بين الطبيب النفسي الذي يسعى لتفسير الحالة من منظور علمي، والأب آمورث الذي يرى أن الشيطان ليس استعارة، بل كيان حقيقي يتربص بالبشر. هذا التناقض يعكس التوتر الذي لطالما ميز العلاقة بين الكنيسة والعلم الحديث، ويُعيد طرح أسئلة جوهرية حول حدود المعرفة والتجربة.

الإخراج والتقنيات البصرية

أخرج الفيلم يوليوس أفيري، الذي برع في خلق توازن بصري بين الواقعية القاسية والرعب الغيبي. اختار التصوير في أماكن ذات طابع تاريخي قديم لتدعيم الإحساس بالغموض، واستعان بمؤثرات بصرية محدودة لكنها فعالة، مما زاد من عمق الإحساس بالرهبة دون الوقوع في فخ المبالغة التقنية.

الضوء والظل، الألوان الداكنة، والصمت المطبق في العديد من المشاهد، كلها عناصر خدمت سرد القصة بفعالية، ورفعت من توتر المشاهد. كما أن الموسيقى التصويرية جاءت مكملة لهذا الجو، حيث استُخدمت أصوات دينية متقطعة ومقاطع أوركسترالية ذات طابع كنسي تقليدي تندمج مع أصوات حديثة توحي بالخطر القادم.

طرد الأرواح في الثقافة الكاثوليكية

يُعد طرد الأرواح أو “الإكزورسيسم” طقساً دينياً قديماً تمارسه الكنيسة الكاثوليكية لطرد الأرواح الشريرة أو الشياطين من الأفراد الذين يُعتقد أنهم تعرضوا للمسّ. ورغم أن هذا الطقس ظل سرياً لفترة طويلة، فإن العقود الأخيرة شهدت انفتاحاً نسبياً للكنيسة حوله، خاصة بعد النجاحات السينمائية لأفلام مثل The Exorcist عام 1973.

في عام 1999، أصدر الفاتيكان دليلاً محدّثاً لطقوس طرد الأرواح، مشدداً على أن هذا الطقس يجب أن يُمارس بحذر شديد وتحت إشراف كنسي مباشر. لكن رغم كل التحفظات، فإن الانبهار الشعبي بهذا الطقس ما زال مستمراً، ويجد في السينما وسيلة قوية لتكريسه وجعله أكثر إثارة.

العلاقة بين الحقيقة والخيال

رغم أن الفيلم مستند إلى ملفات حقيقية كتبها الأب آمورث بنفسه، إلا أن الكثير من الأحداث التي وردت فيه تم تضخيمها أو إعادة تأليفها لتناسب الحبكة الدرامية. فالمؤامرة الكنسية التي يُلمح إليها، والوثائق القديمة المخبأة في الدير الإسباني، ليست مثبتة تاريخياً. لكنها تخدم رؤية الفيلم التي تسعى إلى نقد مؤسساتية الدين وتحويله إلى منظومة سلطة قد تنحرف عن مسارها الروحي.

جدول يوضح الفرق بين الحقيقة والخيال في الفيلم:

أهمية الفيلم ثقافياً

فيلم The Pope’s Exorcist لا يُعد مجرد عمل رعب بل هو محاولة جادة لاستكشاف العلاقة بين الدين والسلطة، بين الإنسان والشر، بين العلم والإيمان. من خلال شخصية الأب آمورث، يُقدم الفيلم نموذجاً لرجل يرفض الخضوع الأعمى للمؤسسة التي يخدمها، ويصر على البحث عن الحقيقة، مهما كانت مرعبة أو مكلفة.

إنه فيلم يطرح تساؤلات فلسفية ودينية دون أن يزعم تقديم إجابات جاهزة، ويُظهر كيف يمكن للسينما أن تعيد تشكيل قصص واقعية بطريقة تفتح آفاق التفكير، حتى وإن كانت تُصاغ ضمن أطر رعب مشوق.

المراجع

• Amorth, Gabriele. An Exorcist Tells His Story. Ignatius Press, 1999.

• Vatican Press Office. Rituale Romanum: De Exorcismis et Supplicationibus Quibusdam. Typis Vaticanis, 1999.