الغباء ضروري للحياة الزوجية: قراءة نفسية واجتماعية في مفهوم يبدو صادماً

في ظاهر الأمر، يبدو الحديث عن “الغباء” بوصفه ضرورة للحياة الزوجية نوعاً من العبث أو السخرية، بل قد يُعتبر إهانة للعقل والمنطق، خاصة أن العلاقة الزوجية تُبنى – كما يفترض – على أسس من التفاهم والوعي والنضج. إلا أن التأمل العميق في طبيعة العلاقات الإنسانية، وفي مقدمها العلاقة الزوجية، يكشف عن حقيقة مغايرة: بعض من “الغباء”، أو بتعبير أدق، التغافل المتعمد وتجميل الوقائع وتجاوز التفاصيل، ليس فقط مفيداً للحياة الزوجية بل قد يكون شرطاً لاستمرارها واستقرارها.

هذا المقال يتناول هذه الفكرة من منظور علم النفس، والسوسيولوجيا، وتحليل تجارب الحياة اليومية، لفهم كيف يمكن لهذا “الغباء الإيجابي” أن يُشكّل صمام أمان للحياة الزوجية.

أولاً: تعريف الغباء في سياق الحياة الزوجية

الغباء في هذا السياق لا يُقصد به نقص الذكاء أو ضعف الإدراك العقلي، بل يُراد به نمط سلوكي واعٍ يُمارسه أحد الزوجين أو كلاهما، ويأخذ شكل التجاهل المتعمد لأخطاء أو زلات الطرف الآخر، وتجاوز تفاصيل قد تُثير مشكلات كبيرة لو تم الوقوف عندها بدقة. هو أشبه بـ “ذكاء عاطفي مضاد”، لا يُستخدم للسيطرة أو تحليل المواقف، بل لتخطيها دون أذى أو صدام.

إنه شكل من “الغباء الاختياري”، الذي تُمارسه النفس لتجنب الشقاق، ولإبقاء مناخ العلاقة دافئاً وخالياً من النقد الدائم والانفعال المتكرر.

ثانياً: التغافل كقيمة زوجية

كثير من علماء النفس والعلاقات الإنسانية تحدثوا عن التغافل كعنصر أساسي في العلاقات العاطفية المستقرة. التغافل لا يعني القبول بالخطأ، بل تأجيل الانفجار، وتهذيب الغضب، والنظر للأمور من زاوية أوسع. في كتاباته، أشار الدكتور طارق الحبيب – الطبيب النفسي المعروف – إلى أن التغافل مهارة راقية، وأن الشخص الذكي هو من يعرف متى يُغضب، ومتى يتغافل، ومتى يصمت، ومتى يتحدث.

في الحياة الزوجية، لا يُمكن أن يسود السلام دون جرعات من التغافل المتبادل. إن التوقف عند كل كلمة وكل تصرف، والبحث عن النيات وراء كل حركة، يقود إلى استنزاف عاطفي ونفسي شديد. لذلك فإن “الغباء الزوجي” – إن جاز التعبير – هو آلية بقاء ضرورية.

ثالثاً: الغباء كترياق ضد النقد الزائد

الإنسان بطبعه يميل إلى النقد والبحث عن العيوب، وهذا السلوك يتضخم حين يعيش المرء في علاقة دائمة ومتشعبة كالعلاقة الزوجية. في ظل تعايش يومي طويل، تبدأ العيوب الصغيرة في الظهور، وتُصبح موضع اهتمام ومراقبة، مما يدفع الزوجين إلى نوع من التقييم المستمر لبعضهما البعض.

الغباء هنا يظهر كحالة مضادة: التوقف عن تحليل كل شيء، وعدم تحميل التصرفات أكثر مما تحتمل، والتخلي عن الرغبة في إصلاح الآخر بشكل دائم. إنه – على حد تعبير الشاعر إيليا أبو ماضي – “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”، و”كن غبياً قليلاً ترى الحياة أسهل”.

في غياب هذا الغباء، يُصبح أحد الطرفين ناقداً مزمناً، والطرف الآخر مُتهماً مزمناً، وتتحول الحياة إلى ساحة محاكمة لا تنتهي.

رابعاً: الذكاء المفرط خطر على العلاقات الزوجية

يُظهر عدد من الدراسات النفسية أن الأشخاص ذوي الذكاء التحليلي العالي غالباً ما يواجهون صعوبات في العلاقات العاطفية، لأنهم يميلون إلى التحليل المفرط، والبحث عن منطقية كل تصرف، وقراءة النيات الخفية. في الحياة الزوجية، هذا النوع من السلوك قد يُفسد اللحظات الحميمة ويُفرغ العلاقة من عفويتها.

الزوج أو الزوجة الذي يُحلل كل تصرف، ويُعيد قراءة كل كلمة، ويُحاكم كل نبرة، يُسبب توتراً دائماً، وقد يصل إلى درجة التسلط العاطفي. من هنا، فإن القليل من “الغباء” يُعادل الكثير من الذكاء العاطفي.

خامساً: دور الغباء في خلق أمان نفسي

في العلاقة الزوجية، لا يبحث الإنسان فقط عن الحب، بل عن الأمان. وهذا الأمان لا يتوفر في جو مُشحون بالتوقعات العالية والتدقيق المستمر. الغباء هنا يأخذ شكل التبسيط: عدم تضخيم الهفوات، وقبول الآخر بما فيه من عيوب، وتفضيل الراحة على الصواب الدائم.

الزوجة التي لا تُفتّش هاتف زوجها باستمرار، لا لأنها تجهل التكنولوجيا، بل لأنها اختارت أن تُصدق وتثق، تمارس شكلاً من “الغباء المريح”. والزوج الذي لا يُدقق في طريقة حديث زوجته مع الآخرين، لا لأنه لا يغار، بل لأنه اختار راحة قلبه، كذلك يمارس الغباء الحكيم.

سادساً: الغباء في مواجهة الملل الزوجي

الملل الزوجي يُعد أحد أخطر التحديات التي تواجه العلاقة طويلة الأمد، حيث تتلاشى مفاجآت البداية، وتغيب لحظات الحماس، ويحل الروتين مكان العاطفة. هنا يظهر الغباء كحيلة نفسية للبقاء: الضحك على النكات القديمة، التظاهر بالدهشة أمام هدية متكررة، الادعاء بعدم معرفة ما سيقوله الطرف الآخر رغم التكرار.

هذه التمثيليات الصغيرة، التي تبدو للوهلة الأولى “غباءً مصطنعاً”، تُعيد الحياة للمشاعر، وتكسر جمود الأيام. إنها شكل من أشكال “الغباء الرومانسي”، الذي يُغلف الواقع الممل بغطاء من الطراوة الإنسانية.

سابعاً: الغباء كأداة لحماية الكرامة

في كثير من المواقف، يُفضل أحد الطرفين أن “يتغابى” بدلاً من أن يضع الآخر في موقف محرج. الزوجة التي تلاحظ تغيير نبرة صوت زوجها أو ارتباكه عند ذكر امرأة أخرى، فتتجاهل ذلك حفاظاً على كرامته وكرامتها، تمارس “غباءً شريفاً”. وكذلك الزوج الذي يعلم أن زوجته تبالغ في بعض الأمور لكنه لا يُواجهها، بل يدعها تتحدث، يمارس نفس النوع من الذكاء المُغطى بالغباء.

هذه السلوكيات تُمثل حماية متبادلة للكرامة، وتُجنب العلاقة لحظات انكسار قد يصعب ترميمها.

ثامناً: الغباء بوصفه فلسفة تعايش

يمكن النظر إلى الغباء الزوجي كتعبير عن فلسفة تعايش قائمة على تقبّل النقص، وعدم المثالية، والتسليم بأن الإنسان كائن محدود، متناقض، وأحياناً غير منطقي. هذه الفلسفة تُخالف ما تُروّج له ثقافة الاستهلاك العاطفي المعاصر، التي تدعو إلى العلاقة المثالية، والشريك الكامل، والانسجام المطلق.

الغباء، بهذا المعنى، هو تمرد على تلك الصورة غير الواقعية، وعودة إلى الأرض: إلى علاقة قائمة على الصبر، والتسامح، والتكرار، والملل، والضحك المُصطنع أحياناً. هو إعلان بأن الحياة الزوجية ليست رواية رومانسية، بل عقد شراكة طويل الأمد، ينجح فيه من يُجيد فن التغابي أكثر من فن البلاغة.

جدول يوضح الفرق بين الغباء المضر والغباء الإيجابي في الحياة الزوجية

تاسعاً: التوازن بين الغباء والصدق

من المهم التأكيد أن الغباء المطلوب في الحياة الزوجية لا يعني الكذب أو التزييف، بل يعني اختيار المعارك بعناية، وتجاوز ما لا يستحق الوقوف عنده. إن التوازن بين الصدق والغباء يُمثل قمة النضج العاطفي، حيث يعرف كل طرف متى يقول الحقيقة، ومتى يمرر الموقف بصمت.

هذا التوازن لا يتحقق بسهولة، بل يحتاج إلى وعي وتدريب