أول مدينة بناها المسلمون في مصر: الفسطاط
تعد مدينة الفسطاط أول مدينة أسسها المسلمون في مصر بعد فتحها في القرن السابع الميلادي. كانت الفسطاط بمثابة النواة الأولى للحضارة الإسلامية في مصر، وساهمت في تشكيل ملامح الحضارة الإسلامية في المنطقة بشكل عام. تأسست الفسطاط بعد أن قام الصحابي الجليل عمرو بن العاص بفتح مصر في عام 641م، وذلك ضمن العمليات العسكرية التي خاضها المسلمون ضد الإمبراطورية البيزنطية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. سنستعرض في هذا المقال تاريخ الفسطاط، تأسيسها، دورها في تاريخ مصر الإسلامي، والمراحل المختلفة التي مرت بها.
فتح مصر: بداية الطريق نحو الفسطاط
كان فتح مصر أحد الأهداف المهمة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وذلك لموقعها الاستراتيجي الذي يربط بين الشرق والغرب، فضلاً عن كونها كانت جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية. في عام 641م، بدأ الصحابي عمرو بن العاص حملته العسكرية على مصر، ونجح في الوصول إلى مدينة الإسكندرية بعد معركة حاسمة ضد الجيش البيزنطي، وهو ما مهد الطريق لدخول المسلمين إلى مصر.
ومع سقوط الإسكندرية، قرر عمرو بن العاص تأسيس قاعدة عسكرية في منطقة كانت تشرف على النيل، وتتوفر على موقع ممتاز يساعد في السيطرة على المنطقة. هذه القاعدة العسكرية كانت بداية تأسيس مدينة الفسطاط.
تأسيس الفسطاط
تم اختيار موقع الفسطاط بعناية شديدة، حيث كان يقع على بُعد عدة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة عين شمس (التي كانت تعرف في العصر الفرعوني باسم “هيراكونبوليس”). وهذا الموقع كان يوفر للمسلمين تحكمًا أكبر في حركة النقل النهري عبر النيل، كما كان قريبًا من موقع مدينة ممفيس القديمة التي كانت مركزًا حضاريًا هامًا في مصر.
يقال إن عمرو بن العاص اختار هذا المكان بعد أن تفقده واستشار أصحابه حول أفضل موقع يمكن تأسيس المدينة فيه. وبدأ العمل على بناء المدينة فورًا، وشارك في بناء المدينة العديد من المسلمين الذين جاءوا مع عمرو بن العاص، إلى جانب السكان المحليين الذين انضموا إلى المشروع. وقد تم بناء المدينة باستخدام المواد المحلية، مثل الطين والحجر الجيري.
الفسطاط كعاصمة للدولة الإسلامية في مصر
لم تكن الفسطاط مجرد مدينة عسكرية، بل كانت مركزًا حضاريًا وتجاريًا مهمًا. سرعان ما أصبحت المدينة بمثابة عاصمة مصر في الحقبة الإسلامية، واستمرت على هذا الحال طوال فترة حكم الخلفاء الأمويين والعباسيين.
وقد تم تنظيم المدينة بشكل يواكب احتياجات المجتمع الإسلامي، حيث تم تخصيص مناطق للمساجد، والأسواق، والبيوت، بالإضافة إلى دور الحكومة والإدارة. كان يتم توجيه الدعوات لبناء المساجد التي أصبحت مركزًا للعبادة والتعليم في المدينة، وكان أبرزها جامع عمرو بن العاص الذي يعد من أقدم وأكبر المساجد في مصر والعالم الإسلامي.
دور الفسطاط في نشر الثقافة الإسلامية
كانت الفسطاط في البداية بمثابة معسكرًا للمجاهدين العرب والمسلمين من مختلف الأقطار، ومع مرور الوقت، بدأت المدينة تشهد ازدهارًا في مجالات أخرى، مثل التجارة والعلم. من خلال موقعها على ضفاف النيل، أصبحت الفسطاط مركزًا تجاريًا هامًا في العالم الإسلامي، حيث كان التجار العرب والمصريون يأتون من كل مكان لبيع وشراء السلع المختلفة.
وكانت الثقافة الإسلامية تزداد انتشارًا في المدينة بفضل ما كان يقدمه العلماء من دروس دينية وثقافية في المساجد والمدارس. كما كانت الفسطاط مكانًا لتبادل المعرفة مع ثقافات أخرى، مثل الثقافة البيزنطية والمصرية القديمة. هذا التبادل الثقافي أسهم في تطور الفنون والآداب في المنطقة.
التطور العمراني في الفسطاط
مع مرور الزمن، شهدت الفسطاط تطورًا عمرانيًا ملحوظًا. ففي البداية، كانت المدينة تضم المساجد ودور العبادة فقط، لكن مع تطور الحياة في المدينة، تم بناء أسواق ومرافق عامة، وشوارع تم تنظيمها بشكل دقيق. وكانت المدينة تمثل نموذجًا للمجتمعات الإسلامية التي بدأت في الانفتاح على حضارات أخرى.
أحد أشهر المعالم العمرانية في الفسطاط كان جامع عمرو بن العاص الذي شيد في عام 642م. يعتبر هذا المسجد أقدم مسجد في مصر وأحد أقدم المساجد في العالم الإسلامي. وقد تم تجديده عدة مرات على مر العصور، ليصبح اليوم واحدًا من أبرز المعالم الإسلامية في مصر.
الفسطاط تحت حكم الأمويين والعباسيين
عندما انتقلت الخلافة الإسلامية من الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية، كانت الفسطاط قد استمرت في كونها مركزًا مهمًا في العالم الإسلامي. تحت حكم الأمويين، شهدت المدينة تطورًا أكبر، وزيادة في عدد السكان، ونموًا اقتصاديًا ملحوظًا.
لكن مع بداية العصر العباسي، وخصوصًا في القرن التاسع الميلادي، بدأ الوضع يتغير في مصر. تم تأسيس مدينة جديدة على يد الخلفاء العباسيين بالقرب من الفسطاط، وبدأت المدينة الجديدة في جذب المزيد من السكان والموارد. هذا التوسع والتطور جعل الفسطاط تبدأ في فقدان بعض من أهميتها السياسية والاقتصادية.
زوال الفسطاط وتحولها إلى القاهرة
في القرن العاشر الميلادي، تحديدًا في عام 969م، قرر الفاطميون تأسيس مدينة جديدة تُعرف باسم “القاهرة” لتكون عاصمة لهم. بعد ذلك، بدأت الفسطاط تتراجع تدريجيًا، حيث تم بناء القاهرة بالقرب منها، وهو ما أدى إلى تحول الأنشطة الحكومية والتجارية إلى العاصمة الجديدة.
على الرغم من تراجع مكانة الفسطاط، إلا أن المدينة لم تختفِ تمامًا من التاريخ المصري. بل على العكس، فقد ظلت بعض معالمها قائمة حتى اليوم، بما في ذلك جامع عمرو بن العاص، الذي يعتبر شاهدًا على تاريخ المدينة العريق.
الفسطاط اليوم: آثار وحضارة
في العصر الحديث، تم الحفاظ على العديد من الآثار التاريخية التي تعود إلى الفسطاط. فهناك العديد من المعالم التي تم اكتشافها خلال الحفريات، والتي تعكس الحياة اليومية في تلك الفترة، مثل القبور، والأسواق، والأبنية القديمة. مدينة الفسطاط اليوم ليست مجرد ذكرى في كتب التاريخ، بل هي جزء من الهوية الثقافية والحضارية لمصر.
في الختام، تعتبر الفسطاط مثالًا حيًا على كيفية تأسيس مدينة في ظل ظروف سياسية وعسكرية صعبة، وتحولها إلى مركز حضاري وتجاري هام. ورغم مرور العصور وتغيير العواصم، تبقى الفسطاط من أهم محطات التاريخ الإسلامي في مصر.
