صناعة الكحل الطبيعي

صناعة الكحل: بين التاريخ والتقنيات الحديثة

عرفت صناعة الكحل منذ آلاف السنين كأحد أبرز أشكال الزينة والعناية بالجمال التي اعتمدتها الحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والفرعونية وحضارات بلاد الرافدين والفينيقيين، حيث لم يكن الكحل يقتصر على دوره التجميلي فحسب، بل ارتبط أيضاً بمعتقدات وقائية وصحية، فكان يُعتقد أنّه يحمي العين من الالتهابات ويقيها من أشعة الشمس القوية والرمال والغبار.

الجذور التاريخية للكحل

ظهرت أقدم الأدلة على استخدام الكحل في مقابر الفراعنة حيث عثر علماء الآثار على أدوات ودلال زينة تحتوي على بقايا بودرة سوداء مصنوعة من مواد طبيعية مطحونة بدقة. اعتمد المصريون القدماء على مركبات تحتوي بشكل أساسي على معدن الرصاص أو مركب الغالينا (كبريتيد الرصاص)، وكانت هذه المواد تُطحن وتُخلط مع زيوت أو دهون حيوانية لتسهيل تثبيتها حول العينين.

انتقلت صناعة الكحل لاحقاً إلى الحضارات العربية والإسلامية حيث عُرف الكحل العربي الأصيل، الذي تميز بتركيباته الطبيعية المستخرجة من الأثمد، وهو حجر معدني أسود يميل إلى اللمعان يُستخرج غالباً من جبال شبه الجزيرة العربية ومن مناطق في بلاد الشام وشمال إفريقيا.

المواد الخام التقليدية لصناعة الكحل

يتكوّن الكحل التقليدي من مواد طبيعية تختلف باختلاف الثقافات والبيئات الجغرافية. من أبرز هذه المواد:

• الأثمد: حجر معدني يُسحق ليصبح بودرة دقيقة تُخلط عادة مع القليل من الزيوت.

• السواد الناتج عن حرق العود: بعض الثقافات اعتمدت على حرق أنواع معينة من العود أو الأخشاب الطيبة للحصول على السواد النقي الذي يُجمع ويُستخدم ككحل.

• السخام: يُستخدم السخام الناتج عن حرق الفتائل القطنية المغموسة في زيوت طبيعية.

• الفحم النباتي: يُطحن الفحم بدقة ويُنقى ويُخلط مع مواد مثبتة.

• زيت الخروع أو زيت السمسم: يُستخدمان كمواد رابطة لتثبيت البودرة حول العينين.

الجدول التالي يوضح أشهر المواد التقليدية وخصائصها:

طرق التحضير التقليدية للكحل

تمر صناعة الكحل التقليدي بعدة مراحل دقيقة تتطلب الحرفية والخبرة لضمان نقاوة المادة وسلامتها:

1. تنقية المادة الخام: يُنتقى الأثمد أو الفحم أو السواد بعناية لضمان خلوّه من الشوائب.

2. الطحن: تُسحق المواد باستخدام أحجار ملساء أو مطاحن نحاسية حتى تتحول إلى بودرة ناعمة جداً.

3. الغربلة: تُغربل البودرة عدة مرات للحصول على ملمس حريري موحد.

4. الخلط: تُخلط البودرة مع زيوت طبيعية مثل زيت الخروع أو زيت السمسم أو زيت الزيتون.

5. الحفظ: يُحفظ الكحل في علب محكمة الإغلاق لحمايته من الرطوبة والأتربة.

التحضير الحديث للكحل في الصناعات التجميلية

مع تطور تقنيات التجميل الحديثة ظهرت أنواع جديدة من الكحل تختلف عن الكحل التقليدي من حيث المكونات وطرق التصنيع. تُنتج كبرى شركات مستحضرات التجميل أقلام كحل سائلة أو جافة تعتمد على مركبات صناعية آمنة وأصباغ كيميائية مطابقة للمعايير الصحية.

يتكوّن الكحل الحديث عادةً من:

• أصباغ سوداء صناعية نقية.

• مواد شمعية لتسهيل الاستخدام.

• زيوت معدنية أو طبيعية لتسهيل الانزلاق على الجفن.

• مواد حافظة تمنع التلوث الجرثومي.

• مستخلصات نباتية مهدئة للبشرة الحساسة حول العينين.

تخضع تركيبات الكحل الصناعي لمعايير صارمة من حيث نسبة المعادن الثقيلة المسموح بها، خصوصاً الرصاص والزرنيخ، حفاظاً على سلامة العين ومنع الحساسية.

الفرق بين الكحل التقليدي والحديث

يتسم الكحل التقليدي وخاصة كحل الأثمد بشهرة واسعة بين النساء في بعض الثقافات لما يُعتقد من فوائده الصحية في تقوية البصر وحماية العين، بينما يميل الكحل الصناعي إلى توفير سهولة الاستخدام والثبات لفترات أطول مع ألوان متنوعة تناسب جميع الأذواق.

ومع ذلك، يظل الكثيرون يفضلون الكحل الطبيعي لارتباطه بالموروث الشعبي والثقافي ولغياب الإضافات الكيميائية عنه. لكن يجدر التنويه إلى أنّ بعض أنواع الأثمد غير النقية قد تحتوي على نسب عالية من الرصاص إذا لم تخضع للتحليل والتنقية.

معايير الأمان والجودة

مع انتشار الكحل بطرق تجارية غير خاضعة للرقابة، ظهرت بعض المخاطر الصحية نتيجة غش المواد أو استخدام معادن ثقيلة ضارة مثل الرصاص والزئبق. لذلك يُنصح دائماً بشراء الكحل من مصادر موثوقة تحمل شهادات تحليل مخبري معتمدة.

كما يجب تخزين الكحل في مكان جاف وبارد مع الحرص على عدم تبادله بين الأفراد تجنباً لنقل العدوى البكتيرية. ويفضّل اختبار أي منتج جديد على جزء صغير من الجلد قبل الاستخدام للتأكد من عدم وجود تحسس جلدي.

استخدامات الكحل في الطب الشعبي

أشارت بعض المراجع الطبية القديمة إلى فوائد الكحل في علاج بعض أمراض العين، حيث استُخدم كعلاج وقائي ضد التهابات الجفون والقرنية، وكان يُعتقد أنّه يطرد الأجسام الغريبة ويمنع وصول الحشرات الصغيرة إلى العينين. ومع ذلك، لم تثبت الدراسات العلمية الحديثة فعالية هذه المعتقدات بشكل قاطع.

الاستدامة وصناعة الكحل

مع تزايد الاهتمام بالاستدامة البيئية، اتجهت بعض العلامات التجارية إلى استخدام مكونات طبيعية عضوية خالية من المواد الكيميائية القاسية، إلى جانب الاعتماد على تعبئة صديقة للبيئة يمكن إعادة تدويرها. كما ظهرت منتجات كحل نباتية بالكامل تناسب مستخدمي المنتجات النباتية (Vegan) الخالية من أي مكونات حيوانية أو تجارب مخبرية على الحيوانات.

الكحل كعنصر ثقافي وهوية جمالية

لا يمكن فصل الكحل عن مكانته الرمزية في الثقافة العربية والشرقية عموماً، فهو لا يزال يمثل جزءاً من طقوس الزواج والاحتفالات الدينية لدى بعض المجتمعات البدوية والريفية، ويُستخدم للمواليد الذكور والإناث ضمن تقاليد توارثتها الأجيال.

الخلاصة

صناعة الكحل رحلة متجذرة في التاريخ، تجمع بين البساطة والحرفية حيناً، والتقنيات الحديثة حيناً آخر. وبينما تغيّرت طرق الإنتاج من طحن حجر الأثمد بأدوات بدائية إلى خطوط إنتاج معقمة في مصانع كبرى، يبقى الكحل رمزاً