حكم استلام الركن اليماني
يُعدّ الركن اليماني أحد الأركان الأربعة للكعبة المشرفة، وهو الركن الذي يسبق الحجر الأسود في الطواف، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية منها، ويُطلق عليه هذا الاسم نسبةً إلى اليمن لأنه من جهتها. واستلام الركن اليماني من السنن النبوية التي وردت بها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله مكانة خاصة في أعمال الطواف، وقد حث العلماء على استحضار سنته واتباع هديه في هذا الموضع تحديدًا، لما ورد في الأثر من فضل ذلك.
يُعنى بهذا المقال بيان الحكم الفقهي لاستلام الركن اليماني، وما يتعلق به من مسائل، وبيان الحكمة من استحبابه، وآراء المذاهب الفقهية في ذلك، ومتى يُشرع استلامه، وما يقال عند استلامه، مع توثيق أقوال العلماء المعتبرين والمراجع الأساسية في الفقه الإسلامي.
تعريف الركن اليماني وموقعه
الركن اليماني هو الركن الذي يلي الركن الغربي الجنوبي من الكعبة المشرفة، ويقع بين الركن الجنوبي (اليماني) والركن الشرقي (الذي فيه الحجر الأسود) جدار الكعبة المعروف باسم “الملتزم”، وهو الجزء الأخير من الكعبة الذي يمر به الطائف قبل أن يعود إلى نقطة بداية الطواف، أي إلى الحجر الأسود.
وقد وُصف هذا الركن بأنه متصل بالبيت، ولم يتأثر بتجديدات البناء المختلفة التي حدثت عبر التاريخ مثل الركن الشامي والركن العراقي، مما جعله أقرب إلى البناء الأصلي للكعبة.
الأدلة الشرعية على استلام الركن اليماني
وردت عدة أحاديث نبوية تُشير إلى استحباب استلام الركن اليماني دون تقبيله، ومن ذلك ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
“ما تركت استلام هذين الركنين، في شدة ولا رخاء، منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما”
ـ رواه البخاري (رقم: 1613) ومسلم (رقم: 1267).
والمقصود بهذين الركنين: الركن اليماني، والحجر الأسود. وقد دلّ هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على استلام الركن اليماني والحجر الأسود كلما طاف.
وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“إن مسحهما يحطّان الخطايا”
ـ رواه الإمام أحمد في المسند.
الفرق بين استلام الحجر الأسود واستلام الركن اليماني
يتعلق بالركنين الشرقي والجنوبي ـ وهما الحجر الأسود والركن اليماني ـ أحكام خاصة:
-
الحجر الأسود: يُستحب استلامه وتقبيله عند كل شوط من الطواف، فإن تعذر التقبيل استلمه بيده ثم قبّل يده، فإن تعذر استلمه بعصا أو ما يشبهها ثم قبّلها، فإن تعذر أشار إليه من بعيد بيده اليمنى دون تقبيل.
-
الركن اليماني: يُستحب استلامه باليد اليمنى دون تقبيله، ولا يُشرع الإشارة إليه إن لم يتمكن الطائف من استلامه.
وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم إجماع العلماء على أنه لا يُقبّل الركن اليماني، بخلاف الحجر الأسود.
حكم استلام الركن اليماني عند الفقهاء
المذهب الحنفي:
يرى الحنفية أن استلام الركن اليماني سنة في الطواف إن تيسر، دون تقبيل، ولا يُشرع الإشارة إليه، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. قال الإمام الكاساني:
“يُستحب للطائف أن يستلم الركن اليماني، أي يمسّه بيده، فإن لم يمكنه فلا يشير إليه”
ـ بدائع الصنائع، ج2.
المذهب المالكي:
يرى المالكية أن استلام الركن اليماني سُنّة مؤكدة إذا تيسر، وهو من السنن التابعة للطواف، ويكفي فيه المسح باليد دون تقبيل، ولا إشارة. جاء في الشرح الكبير للدردير:
“ولا يُسنّ تقبيله، بل يقتصر على استلامه، ولا يُشرع الإشارة إليه”.
المذهب الشافعي:
يرى الشافعية كذلك أن استلام الركن اليماني سنة إذا تيسر، دون تقبيله، ودون إشارة إن تعذر استلامه. وقد نصّ الإمام النووي على ذلك بقوله:
“ولا يُقبّل الركن اليماني، ولا يُشار إليه عند تعذر استلامه”
ـ المجموع شرح المهذب.
المذهب الحنبلي:
الحنابلة أيضًا على استحباب استلام الركن اليماني دون تقبيل، فإن لم يتمكن الطائف من استلامه لا يُشرع له الإشارة إليه. قال المرداوي:
“يُسن استلام الركن اليماني باليد دون تقبيل، ولا يُشرع الإشارة إليه”
ـ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.
ما يُقال عند استلام الركن اليماني
لم يرد في السنة النبوية دعاء مخصوص عند استلام الركن اليماني، بخلاف ما ورد بين الركن اليماني والحجر الأسود، حيث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
“ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار”
ـ رواه أبو داود (1892) وصححه الألباني.
وقد نصّ العلماء على أن هذا الدعاء يُقال بعد استلام الركن اليماني إلى أن يصل الطائف إلى الحجر الأسود.
الحكمة من استلام الركن اليماني
يُظهر استلام الركن اليماني حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم شعائر الله، واتباع ما فعله الخليل إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة، فهو من الأركان الأصلية التي لم تُغير أو تُجدّد منذ بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة، بخلاف الركنين الشامي والعراقي. ويُعدّ مسّه إحياءً لهذه السنة، كما أن فيه تذكيرًا بالتواضع والانقياد لله تعالى، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن الركن اليماني ـ كما ورد في الحديث ـ من الركنين اللذين يمحو الله بهما الخطايا عند استلامهما، مما يُضفي على الفعل بُعدًا روحيًا وتعبديًا عظيمًا.
متى يُستحب استلام الركن اليماني
يُستحب استلام الركن اليماني عند كل شوط من أشواط الطواف حين المرور به، ما عدا الشوط الأخير بعد الانتهاء، لأنه لا يُشرع حينها استلام أي ركن بعد تمام الطواف. وقد فصّل العلماء هذا الاستحباب في المواقف التالية:
-
إذا كان الطائف قادرًا على استلامه بسهولة دون مزاحمة أو أذية للغير.
-
في الطواف الواجب (طواف الإفاضة أو طواف العمرة)، وكذلك في الطواف المستحب.
-
مع التأكد من معرفة الركن الصحيح، حتى لا يشتبه على غير المطلعين على أوصاف الكعبة.
حكم من لم يتمكن من استلام الركن اليماني
إذا تعذر على الطائف استلام الركن اليماني، لزحام أو مشقة أو غير ذلك، فلا شيء عليه، ويسقط عنه الاستحباب، ولا يُشرع له أن يُشير إليه كما يُفعل مع الحجر الأسود. وقد نصّ أهل العلم على ذلك كما في قول الإمام النووي:
“إن لم يقدر على استلام الركن اليماني فلا يُشرع له أن يشير إليه، بخلاف الحجر الأسود”.
فالمطلوب هو الاتباع، لا الابتداع، ولا يتجاوز المؤمن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
استلام الركن اليماني للنساء
يحكم النساء في الطواف ما يحكم الرجال، من حيث مشروعية استلام الركن اليماني إذا تيسر لهن ذلك دون تزاحم أو كشف أو اختلاط محرم، فإن تعذر أو خشين الفتنة أو الزحام، فترك الاستلام أولى لهن، ولا يُشرع لهن الإشارة إليه.
الجدول التالي يوضح الفرق بين الأحكام المتعلقة بأركان الكعبة الأربعة في الطواف:
| الركن | الحكم الشرعي | التقبيل | الإشارة عند التعذر | الدعاء المأثور |
|---|---|---|---|---|
| الحجر الأسود | سنة مؤكدة | نعم | نعم | بسم الله، والله أكبر |
| الركن اليماني | سنة إذا تيسر | لا | لا | لا دعاء خاص، بل الذكر المعروف |
| الركن الشامي | لا يُستلم | لا | لا | لا شيء |
| الركن العراقي | لا يُستلم | لا | لا | لا شيء |
أقوال العلماء في مشروعية الاستلام
جاء عن الإمام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (26/97):
“الركنان اليمانيان يُستلمان، والحجر الأسود يُقبّل أيضًا، وأما الركنان الشامي والعراقي فلا يُستلمان ولا يُقبّلان”.
وكذلك قال ابن حجر في فتح الباري:
“ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلم الركن اليماني، ولم يرد أنه قبّله، ولم يثبت أنه أشار إليه عند تعذر استلامه”.
خلاصة الأحكام الفقهية المتعلقة باستلام الركن اليماني
-
استلام الركن اليماني سنة مؤكدة في الطواف إن تيسر.
-
لا يُشرع تقبيله.
-
لا يُشرع الإشارة إليه إذا تعذر استلامه.
-
لا يُشرع الدعاء عنده بدعاء خاص، وإنما يُستحب الذكر والدعاء العام.
-
الأفضل في الزحام ترك الاستلام دفعًا للأذية.
-
لا فرق بين الرجال والنساء في الحكم، مع مراعاة الضوابط الشرعية الخاصة بالمرأة.
المصادر والمراجع
-
النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي.
-
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مكتبة ابن القيم.
