يوم العرض العريان

تذكر وقوفك يوم العرض عريانا

إنها اللحظة التي يقف فيها الإنسان، وحيدًا أمام الله تعالى، في موقف لا تنفع فيه الحيلة ولا الجمال ولا المال، يوم يواجه فيه كل أعماله التي ارتكبها طوال حياته. لحظة من لحظات الحقيقة التي لا مفر منها. يوم العرض، يوم الحساب، الذي لا يختلف فيه أحد مهما كانت مكانته في الدنيا أو حاله في الآخرة. وذكرى الوقوف عريانًا في ذلك اليوم تعد واحدة من أعمق وأكثر اللحظات التي تشكل الوعي البشري في المفاهيم الدينية والفلسفية على حد سواء. في هذا المقال، سنغوص في هذه الفكرة، ونستعرض أبعادها من الناحية الروحية، النفسية، والمجتمعية.

المعنى العميق ليوم العرض

يوم القيامة هو يوم الفصل الذي فيه يلتقي كل إنسان مع أعماله. وكما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: “يوم تُعرضون لا تخفى منكم خافية” (الحاقة: 18)، فإنه يوم يواجه فيه كل فرد من البشر أعماله دون أن يستطيع أن يخفي شيئًا. وفي هذا اليوم، يذكر القرآن الكريم صورة الإنسان في موقفه الذي لا يملك فيه سوى نفسه. ويُذكر هنا الظهور بلا ستر، العري الذي يعكس الحقيقة التامة.

العري في هذا السياق ليس مجرد فقدان للملابس، بل هو تعبير عن فقدان كل وسيلة كانت تسهم في التستر على الإنسان. فالمال والمقام والمكانة الاجتماعية لن تنفع في هذا اليوم، ولن يكون للإنسان سوى عمله. فكما أن العري في الدنيا يعكس حقيقة الإنسان بجلاء، فإن عري يوم القيامة يبرز حقيقة عمله من دون تزيين أو تبرير.

العري في المفهوم الديني

العري في الدين الإسلامي يرتبط بفكرة الطهارة والابتعاد عن الزخارف والمباهج الدنيوية. ويظهر ذلك في الدعوة إلى التواضع في الدنيا، حيث يجب على المسلم أن يتذكر دائمًا أنه مهما علا في الدنيا من قدره أو زين مظهره، فإنه لا مفر من هذا اليوم الذي سيقف فيه بلا زينة. وعندما يقف الإنسان عاريًا في هذا اليوم، لا يفيده لباسه الفاخر ولا مجده الزائل. في هذا اليوم، لا يقيم الله تعالى الناس بحسب لباسهم، بل بحسب أعمالهم الصادقة التي تكون هي الوسيلة الوحيدة للنجاة.

الدلالات النفسية لهذا الموقف

على مستوى النفس البشرية، يُعتبر الوقوف عاريًا في يوم القيامة بمثابة الكشف الكامل لكل الأسرار التي حاول الإنسان إخفاءها طوال حياته. إنه تذكير عميق بالمحاسبة الذاتية التي يجب أن يمارسها الإنسان في حياته. إن العري هنا لا يقتصر فقط على الجسد، بل يتجاوز ذلك ليشمل العري الروحي والنفسي. كل الأشخاص الذين حاولوا التظاهر بالكمال، أو الذين انغمسوا في وهم الحياة، سيجدون أنفسهم مكشوفين أمام الحقيقة التي لا تحابي أحدًا. ففي هذا اليوم، لا مجال للادعاء أو التستر على أخطاء الحياة، لأن كل شيء سيتم الكشف عنه.

هذه اللحظة أيضًا تحمل معاني التطهير، حيث يتم محاسبة الإنسان على كل فعل ارتكبه، والميزان في هذا اليوم هو الميزان الحقيقي الذي لا ظلم فيه. عندما يكون العري حاضرًا، يصبح الإنسان في مواجهة مع نفسه، مع أعماله التي سبقت، مما يدعوه إلى التأمل العميق في كيفية عيش حياته.

الوقوف العاري بين العدل الإلهي ورحمة الله

إن مفهوم العري في يوم القيامة يرتبط أيضًا بالعدل الإلهي. الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوب العباد، ويعلم كل فعل صغير أو كبير ارتكبوه. وفي ذلك اليوم، سيُعرض كل إنسان أمام الله بمفرده، ولن يكون له من شفيع سوى عمله. لكن هذا العري يحمل في طياته أيضًا رسالة من رحمة الله، حيث سيفصل بين الناس على أساس أعمالهم، ويُظهر لكل واحد منهم حقيقة ما قدمه في حياته.

إذا كان العري هو تكشف حقيقة الإنسان، فإن العناية الإلهية ستبقى حاضرة في ذلك اليوم. فالرحمة الإلهية تظهر في قبول التوبة والندم على ما فات. ومع أن العري في هذا اليوم يشير إلى كشف الإنسان وحساب أعماله، إلا أن رحمة الله تظل تضيء الطريق للنجاة لمن أراد التوبة واتباع الصراط المستقيم.

العري في الفلسفة الدينية والاجتماعية

في الفكر الفلسفي والديني، يُنظر إلى العري في هذا السياق كإشارة إلى الشرط البشري الذي لا يمكن للإنسان التهرب منه. فالعري ليس مجرد غياب للملابس، بل هو غياب لجميع الوسائل التي حاول بها الإنسان إخفاء نقصه، سواء كان ذلك بتفاخره بماله أو سلطته أو جماله. ويُعتبر العري في هذه اللحظة العودة إلى الحالة الأصلية، حيث لا يفيد الإنسان إلا ما قدّم من أعمال.

كما أن العري في هذا اليوم يمثل واقعًا اجتماعيًا محكومًا بالعلاقة بين الفرد والمجتمع. المجتمع في الدنيا يحكم على الناس استنادًا إلى مواقفهم الاجتماعية والمادية، لكنه في يوم القيامة يُصبح غير ذي قيمة. الناس في ذلك اليوم جميعهم سواء، لا تفاوت بينهم، سوى بميزان الأعمال. ولذا، فإن تذكير الإنسان بهذا الموقف يجعله يعيد التفكير في مفهوم القوة والجاه، وكيف أن هذه الأمور زائلة في لحظة الحقيقة الكبرى.

تأملات في النفس البشرية وحقيقة الوجود

إن الوقوف عريانًا في يوم القيامة يُعتبر دعوة للفرد للعودة إلى نفسه والتأمل في حقيقة وجوده. الإنسان في الحياة الدنيا قد يلهث وراء الإنجازات المادية، وقد ينسى في غمرة التنافسات الاجتماعية أن هناك يومًا سوف يقف فيه مع نفسه، ليواجه الحقيقة دون أية وسيلة للتمويه. هذا الوقوف يعكس الوجود الإنساني في أسمى تجلياته: مواجهة الذات بكل ما فيها من ضعف وقوة، من خير وشر، من صدق وكذب.

العري هنا ليس عيبًا، بل هو تأكيد على الحقيقة التي يجب أن يواجهها كل شخص. وهو تذكير عميق بضرورة العيش بشفافية، حيث أن الإنسان عندما يُحاسب على أعماله لن تنفعه الزخارف والمظاهر التي كان يزين بها نفسه في الدنيا. فالصدق مع الذات هو السبيل الوحيد للنجاة، وبهذا المعنى، يمكن للإنسان أن يستعد لهذا اليوم بتقوى الله والإخلاص في أعماله.

الخاتمة

إن تذكر الوقوف عريانًا يوم العرض هو دعوة للفرد أن يعيش حياته مع الله سبحانه وتعالى، لا للمظاهر الزائلة، وأن يتحلى بالصدق في كل تصرفاته. كما أن هذا التذكير يعزز مفهوم الإيمان بأن العبرة في الآخرة هي بما قدمه الإنسان من أعمال، لا بما تحمله حياته من زخارف ظاهرية. في يوم العرض، عندما يكون الإنسان عاريًا أمام الله، لن ينفعه شيء سوى عمله الصادق، وأمله في رحمة الله التي وسعت كل شيء.