ويليام هارفي واكتشاف الدورة الدموية

ويليام هارفي: رائد علم وظائف الأعضاء وأب الدورة الدموية الحديثة

يعتبر الطبيب الإنجليزي ويليام هارفي (1578 – 1657) أحد أبرز الشخصيات في تاريخ الطب، وخصوصًا في مجال علم وظائف الأعضاء. قدم هارفي اكتشافًا علميًا غير مجرى فهم الإنسان للجسم البشري، حيث اكتشف الدورة الدموية الكبرى، وهي أحد الاكتشافات التي غيرت تمامًا تصور الطب والعلم حول كيفية عمل الجهاز الدوري.

النشأة والتعليم المبكر

وُلد ويليام هارفي في 1 أبريل 1578 في بلدة فولكستون، الواقعة في مقاطعة كينت بإنجلترا. كان ينحدر من عائلة متوسطة، ودرس في البداية في مدارس محلية قبل أن ينتقل إلى أكسفورد حيث بدأ تعليمه الطبي. تلقى هارفي تعليمه في أكاديمية جامعة كمبردج، وهي واحدة من أعرق الجامعات البريطانية، حيث تأثر بالعديد من المعلمين الذين كانوا رائدين في الطب في ذلك الوقت.

بعد أن أكمل دراسته في كامبريدج، انتقل هارفي إلى جامعة بادوا في إيطاليا، والتي كانت حينها مركزًا علميًا هامًا. في بادوا، التقى به العديد من العلماء المشهورين في ذلك الوقت، مثل أندريا فيسالياس (أب علم التشريح الحديث)، الذي كان له تأثير كبير في تشكيل أفكار هارفي العلمية. في بادوا، أكمل هارفي دراسته وحصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1602.

بداية مسيرته المهنية

بعد عودته إلى إنجلترا، بدأ هارفي ممارسة الطب في لندن، حيث أصبح طبيبًا في مستشفى القديس بطرس، وهو مستشفى تعليمي مهم في ذلك الوقت. بفضل مهاراته وتفانيه في مهنته، تم تعيينه فيما بعد طبيبًا خاصًا للملك تشارلز الأول، مما عزز مكانته في المجتمع الطبي.

خلال سنواته الأولى في ممارسة الطب، كان هارفي في البداية متأثرًا بأفكار أسلافه في مجال الطب، خاصة الفكرة السائدة في ذلك الوقت عن وجود “الأخلاط الأربعة” التي تتحكم في صحة الجسم. لكن سرعان ما بدأ هارفي يلاحظ بعض الفجوات في هذا الفهم التقليدي، وكان يعتقد أنه لا بد من وجود تفسير علمي مختلف حول كيفية عمل الجسم، وهو ما دفعه للبحث في موضوع الدورة الدموية.

اكتشاف الدورة الدموية الكبرى

أبرز إنجازات هارفي كان اكتشافه للآلية التي يتم من خلالها نقل الدم عبر الجسم البشري. في عام 1628، نشر هارفي عمله العلمي الأكثر شهرة تحت عنوان “تشريح حركة القلب والدم في الكائنات الحية” (De Motu Cordis et Sanguinis). في هذا العمل، قدم هارفي وصفًا دقيقًا لدورة الدم في الجسم البشري، والتي كانت أول تفسير شامل لهذه العملية الحيوية.

في تلك الحقبة الزمنية، كان العلماء يعتبرون أن الدم يتم إنتاجه في الكبد ثم يُنقل عبر الأوردة إلى الأنسجة، حيث يتبدد فيها. لكن هارفي أظهر من خلال تجاربه على الحيوانات، بما في ذلك التشريح التجريبي للقلب والأوعية الدموية، أن الدم يتدفق في دورة مغلقة عبر القلب والشرايين والأوردة. أشار هارفي إلى أن الدم لا يختفي في الأنسجة، بل يعاد إلى القلب عبر الأوردة ليتم ضخّه مجددًا. هذا الاكتشاف أثبت أن القلب يعمل كمضخة، مما ساعد على تغيير فهم كيفية عمل الدورة الدموية.

أدوات تجاربه وطرق الإثبات

لا يمكن إغفال دور التجارب المخبرية في عمل هارفي. كان هارفي بارعًا في استخدام الأدوات المتاحة له في ذلك الوقت لإجراء تجاربه، حيث استخدم التقنيات الحديثة لأبحاثه التجريبية. أجرى العديد من التجارب على الحيوانات، مثل الخيول والكلاب، ليتمكن من متابعة تدفق الدم في الأوردة والشرايين. أظهرت هذه التجارب بوضوح أن الدم يتدفق في اتجاه واحد فقط، وهو ما اعتُبر دليلاً قويًا على نظرية الدورة الدموية.

بالإضافة إلى ذلك، قام هارفي بتوثيق ملاحظاته الدقيقة حول حركة الدم داخل القلب والأوعية، مستخدمًا مفاهيم رياضية دقيقة لفهم الضغط والسرعة التي يتحرك بها الدم عبر الأوعية الدموية. كما أدرك أن الدورة الدموية يجب أن تكون عملية مستمرة، بحيث لا ينقطع تدفق الدم بين الأوعية والشرايين. كان هذا الاكتشاف ثوريًا في وقته وأدى إلى ثورة في علم وظائف الأعضاء.

تحديات وآراء العلماء المعاصرين

عند نشر هارفي لاكتشافه، قوبل عمله بالكثير من المعارضة من بعض العلماء والأطباء المعاصرين له. كانت هذه النتائج تتناقض بشكل جذري مع المفاهيم الطبية السائدة في ذلك الوقت، التي تأثرت بأفكار جالينوس (طبيب يوناني قديم) وأبناءه. جالينوس كان يعتقد أن الدم يتم امتصاصه من الأنسجة بواسطة الأوردة، وليس أنه يعاد إلى القلب. وبالتالي، فإن قبول فكرة هارفي كان مسألة صعبة بالنسبة للكثير من العلماء.

استغرق الأمر عدة عقود قبل أن تُقبل نظريته بشكل واسع. ومع ذلك، بفضل الدلائل التجريبية والأدلة التشريحية التي قدمها هارفي، بدأت الدورة الدموية الكبرى تأخذ مكانها في الكتب المدرسية الطبية ويصبح علمًا مقبولًا. هذا الاكتشاف كان نقطة تحول في الطب وأدى إلى تطورات هائلة في مجالات مثل جراحة القلب والدورة الدموية وعلاج الأمراض المرتبطة بالقلب والشرايين.

أثر اكتشافه على الطب الحديث

لقد ساعد اكتشاف هارفي على تأسيس العديد من التخصصات الطبية الحديثة، وخاصة في مجالات جراحة القلب والطب الوقائي. على الرغم من أنه عاش في عصر لم تكن فيه التقنيات المتقدمة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي أو الأشعة السينية متاحة، فإن عمله وضع الأساس لفهم الأمراض المرتبطة بالدورة الدموية، مثل ارتفاع ضغط الدم، أمراض الشرايين التاجية، والسكتة الدماغية.

كما أن هارفي كان يُعتبر من الأوائل الذين ساهموا في فكرة البحث العلمي الموجه بالخبرة العملية والتجارب المختبرية، ما جعله رمزًا للعلماء الذين يدعون إلى المنهج العلمي التجريبي في دراسة الأمراض. لذا، فإن تأثيره في الطب لا يمكن تقديره فقط من خلال اكتشافه للدورة الدموية، بل من خلال تغيير الطريقة التي كان يتبعها العلماء في دراسة الجسم البشري.

وفاته وإرثه

توفي ويليام هارفي في 3 يونيو 1657 في لندن، عن عمر يناهز 79 عامًا. على الرغم من أنه لم يحظ في حياته بمكانة كبيرة في المجتمع العلمي بشكل فوري، إلا أن اكتشافاته ألهمت أجيالاً من الأطباء والعلماء الذين أسهموا في تطور علم الطب.

يُعتبر هارفي اليوم أحد أعظم العلماء في تاريخ الطب، وحظي باعتراف واسع من المجتمع العلمي. ويمثل إرثه في الطب معلمًا هامًا في رحلة فهم جسم الإنسان. يعتبر في الوقت الحاضر مؤسسًا لدراسة الدورة الدموية وأبًا لعلم وظائف الأعضاء الحديث.

خاتمة

لقد أسهم ويليام هارفي في تغييرات جذرية في مجال الطب، وأدى اكتشافه العظيم إلى تطورات هائلة في معرفة وظائف الأعضاء والأمراض. حيث قدم للعالم مفهوم الدورة الدموية الحديثة، والذي شكّل حجر الأساس للعديد من الاكتشافات الطبية الأخرى.