وسطية الإسلام وعالميته: نموذج متوازن في الفكر والتطبيق

تُعدّ وسطية الإسلام وعالميته من أبرز الخصائص التي تميّز هذا الدين العظيم عن غيره من النظم الفكرية والاجتماعية، مما جعله رسالة جامعة تتسم بالاعتدال والمرونة، وقادرة على التواصل مع كافة الشعوب والثقافات عبر العصور. ويتجلى مفهوم الوسطية في الإسلام في كونه منهجًا متوازنًا بعيدًا عن الإفراط أو التفريط، يعكس حكمة ربانية في تنظيم حياة الإنسان على جميع الأصعدة، سواء الروحية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. أما عالميته، فهي تظهر في قدرة الإسلام على التفاعل مع كل زمان ومكان، مستوعبًا للثقافات المختلفة، ومتوافقًا مع المبادئ الإنسانية المشتركة، ما يجعله دينًا شاملاً للبشرية جمعاء.

الوسطية في الإسلام: تعريف وأبعاد

الوسطية في اللغة تعني الاعتدال وعدم الغلو، وفي الاصطلاح الإسلامي تشير إلى التوازن الذي يُراد به تحقيق العدل والعدل هو في اللغة الميزان. فقد جاء الإسلام ليكسر نمط الغلو والتشدد من جهة، والتفريط والتهاون من جهة أخرى، فكانت رسالته قائمة على ما يُعرف بـ “الوسطية”، التي تعني السير على طريق الوسط الذي لا ينحرف عنه، ولا يتطرف في أي اتجاه.

تؤكد النصوص القرآنية والسنة النبوية على هذا المبدأ بوضوح، حيث يقول الله تعالى في سورة البقرة:

﴿كُنْتُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143)،

وهذه الآية تحدد مكانة الأمة الإسلامية كأمة وسطية تميزها العدالة والاعتدال بين الأمم، لا غلو فيها ولا تقصير.

أبعاد الوسطية الإسلامية

1. البعد العقائدي:
   
   تتبنى العقيدة الإسلامية موقفًا متزنًا بين الغلو الذي يؤدي إلى التشدد والتعصب، وبين التفريط الذي يؤدي إلى الإلحاد أو الضعف في الإيمان. الإسلام ينفي أي غلو في إلهيته أو في صفاته، ويحث على الاعتدال في التوحيد والعبادة.

2. البعد الأخلاقي:
   
   يُحث المسلم على التحلي بالأخلاق الوسطية التي تجمع بين الرحمة والعدل، بين القوة واللين، وبين الشجاعة والحكمة. فالأخلاق الإسلامية لا تميل إلى التشدد في الحكم على الناس، ولا إلى التساهل الذي يهدد النظام الاجتماعي.

3. البعد الاجتماعي والسياسي:
   
   الوسطية هنا تعني إقامة نظام عدل اجتماعي يوازن بين حقوق الفرد وواجباته، وبين حرية الفرد وحقوق المجتمع. كما أنها تعني التوازن في الحكم بين الشدة والرحمة، وبين الحفاظ على الأمن والعدل، مع احترام الكرامة الإنسانية.

4. البعد الفقهي:
   
   في التشريع، يحرص الفقه الإسلامي على مراعاة التيسير وعدم التشدد في الأحكام ما لم تقتض الضرورة شيئًا آخر. وهذا ما يفسر وجود الاجتهادات المتعددة التي تعكس مرونة الشريعة في مواكبة ظروف الشعوب المختلفة.

عالميّة الإسلام: رسالة لكل زمان ومكان

يتميز الإسلام عن كثير من الأديان أو النظم الفكرية الأخرى بكونه رسالة ليست محصورة في زمان أو مكان محدد، بل هي عالمية وشاملة لكل البشر. ظهرت هذه العالمية جلية منذ بدء الرسالة، حيث استقبل الإسلام العرب وغير العرب على حد سواء، وجعل من التنوع البشري عاملاً إيجابيًا في بناء الحضارة الإسلامية.

معالم العالمية في الإسلام

1. الشمولية في النصوص والمبادئ:
   
   القرآن الكريم والسنّة النبوية يحويان مبادئ عامة وشاملة تتجاوز الظروف الخاصة بالجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، مثل العدل، الرحمة، حفظ الكرامة، حرية الاعتقاد، والتسامح. هذه المبادئ صالحة لكل زمان ومكان، وتسمح بتطبيق مرن وفقًا للظروف الثقافية والاجتماعية المختلفة.

2. الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي:
   
   الإسلام لا يفرق بين البشر على أساس العرق أو اللون أو اللغة، بل يؤكد على وحدة الإنسانية في الأصل والمصير. قوله تعالى:
   
   ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)
   
   يدل على أن التنوع هو سنة إلهية يجب احترامها وتقديرها.

3. المرونة في التشريع والاجتهاد:
   
   بفضل مبدأ الاجتهاد، يستطيع الإسلام أن يتكيف مع متغيرات الزمن والمكان. فالمجتمعات الإسلامية عبر التاريخ أجرت تفسيرات متعددة ومتنوعة للنصوص بما يتناسب مع ظروفها، مع الحفاظ على جوهر الدين ومبادئه الأساسية.

4. التأثير الحضاري العالمي:
   
   انتشار الإسلام في آسيا وأفريقيا وأوروبا كان مدفوعًا بهذه العالمية التي تتقبل الآخر وتحتفي بالتفاعل الحضاري، وليس بالاحتكار أو الغزو الفكري. ولقد أثرت الحضارة الإسلامية في علوم الرياضيات والطب والفلسفة والفنون وغيرها، مما ساهم في تقدم البشرية بشكل عام.

مقومات الوسطية وعوامل تعزيزها في الإسلام

تتعدد العوامل التي جعلت الإسلام يحمل وسطية متفردة وأصالة في تطبيقها، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1. التوازن بين الروح والمادة

الإسلام يراعي احتياجات الروح والبدن، فلا يهمل الروحانيات ولا ينسى متطلبات الحياة المادية. فالصلاة والزكاة والصيام تهدف إلى تحقيق توازن روحي وأخلاقي، بينما الشريعة الاقتصادية والاجتماعية تهدف إلى تنظيم حياة الناس في الأرض.

2. الوسطية في العبادات والمعاملات

تراعي الشريعة الإسلامية الوسطية في أداء العبادات، فلا تجبر الإنسان على ما يعجز عنه، مثل الرخصة في السفر والصيام، وفي المعاملات تعزز التوازن بين حق الفرد وحقوق الآخرين.

3. الحماية من التطرف والغلو

الإسلام يضع ضوابط صارمة لمنع الغلو في الدين أو الدينونة، ويحض على التسامح، والاعتراف بآراء الآخرين مع احترام الاختلاف، وهذا يخلق جوًا من التعايش السلمي والاعتدال.

4. الاعتدال في التشريع والعقوبات

التشريعات الإسلامية تراعي الحالات والظروف، وتقدم عقوبات رادعة لكنها متناسبة مع الفعل، وتتسم بالرحمة والعدل، مع وجود ضمانات شرعية لحقوق المتهم.

5. دور القرآن الكريم والسنة النبوية

النصوص الشرعية تتكرر في التأكيد على الوسطية والاعتدال، مما يجعلها جوهر الرسالة، والمرجع الرئيسي لمنهج الحياة، مع عدم التمسك الحرفي فقط بما قد يجر إلى الجمود.

جدول يوضح الفرق بين وسطية الإسلام وأشكال التطرف:

تطبيقات الوسطية وعالمية الإسلام في الحياة المعاصرة

وسطية الإسلام وعالميته ليستا مجرد مفاهيم نظرية، بل هما قواعد عملية يمكن تطبيقها اليوم لمواجهة تحديات العصر. في ظل التطورات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية المتسارعة، تظل الدعوة إلى الاعتدال والوسطية الوسيلة المثلى لتجنب التطرف والإرهاب، وتعزيز السلام والتعايش بين الشعوب.

على المستوى السياسي، يمكن للدول الإسلامية أن تبني أنظمة حكم عادلة تقوم على مبادئ الوسطية، تحترم حقوق الإنسان وتكفل حرية التعبير، وتعمل على تطوير المجتمعات دون انحرافات تعيق التنمية.

أما على الصعيد الثقافي والاجتماعي، فإن الوسطية تمكن المجتمعات من المحافظة على هويتها الدينية والثقافية، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل الحضاري البناء.

وعالميًا، يمثل الإسلام بقيمه الوسطية نموذجًا للتعايش السلمي بين الأديان والثقافات، ويدعو إلى احترام التنوع الإنساني والحوار الحضاري بدلاً من الصراع.

الخلاصة

وسطية الإسلام وعالميته من أعظم الأسباب التي جعلت هذا الدين يبقى حيًا وفعالًا عبر قرون طويلة، مستجيبًا لمختلف التحديات، ومتفاعلًا مع شعوب الأرض بمختلف خلفياتهم. إن الوسطية تضمن التوازن في الفكر والسلوك، والعالمية تضمن الشمولية والمرونة، مع الحفاظ على الثوابت. بهذا، يصبح الإسلام رسالة حياة متجددة، تسهم في بناء عالم أفضل يقوم على العدل والسلام والرحمة.

المراجع:

1. القرآن الكريم، تفسير الطبري

2. كتاب “الوسطية في الإسلام” للدكتور يوسف القرضاوي