هل السيلفي مرض نفسي؟ تحليل نفسي واجتماعي شامل لظاهرة السيلفي
في العصر الرقمي الحديث، أصبح التصوير الذاتي أو ما يُعرف بـ”السيلفي” جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لملايين البشر حول العالم. وبفضل الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، تحوّل السيلفي من مجرد وسيلة لتوثيق اللحظة إلى ظاهرة اجتماعية ونفسية معقدة تثير اهتمام الباحثين والمختصين في مجالات الصحة النفسية، والسوسيولوجيا، والاتصال الرقمي. وبينما يرى البعض في السيلفي وسيلة للتعبير عن الذات والاحتفال باللحظات الخاصة، يحذر آخرون من أنه قد يعكس اضطرابات نفسية عميقة أو يكون مؤشرًا على مشكلات سلوكية وشخصية.
هذا المقال يقدم تحليلاً موسعًا وعلميًا لظاهرة السيلفي، مستعرضًا جذورها النفسية والاجتماعية، والفرق بين الاستخدام الطبيعي والإدماني لها، ومتى يتحول السيلفي إلى سلوك مَرَضي قد يحتاج إلى التدخل العلاجي.
تعريف ظاهرة السيلفي
السيلفي هو صورة شخصية يلتقطها الفرد لنفسه باستخدام الكاميرا الأمامية للهاتف المحمول أو أي جهاز تصوير رقمي، وغالبًا ما تُنشر على منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام، فيسبوك، وسناب شات. وعلى الرغم من بساطة الفعل من الناحية التقنية، إلا أن دوافعه وتكراره وسياقه قد تنطوي على أبعاد نفسية وسلوكية عميقة.
الخلفية التاريخية للسيلفي
قد يعتقد البعض أن السيلفي ظاهرة حديثة، لكنها تعود إلى قرون سابقة، حيث كان الرسامون يقومون برسم صورهم الذاتية فيما يُعرف بـ”البورتريه الذاتي”. ومع ظهور الكاميرات المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي، انتقل هذا الفعل من النخبة الفنية إلى عامة الناس، وارتبط مباشرة بثقافة الاستعراض والهوية الرقمية.
الأبعاد النفسية للسيلفي
1. تعزيز احترام الذات
عند بعض الأفراد، يمكن أن يكون السيلفي وسيلة لتعزيز الثقة بالنفس، خاصة عند نشر صور يُنظر إليها على أنها جذابة أو تُظهر جانبًا إيجابيًا من الحياة. يعزز هذا الفعل التقدير الذاتي، خصوصًا عندما يتلقى الفرد تعليقات إيجابية وإعجابات (Likes) من الآخرين.
2. اضطرابات النرجسية
من ناحية أخرى، أظهرت دراسات نفسية عديدة وجود ارتباط بين الإفراط في التقاط صور السيلفي وسمات الشخصية النرجسية. تشير هذه الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يعانون من النرجسية المَرَضيّة يميلون إلى تصوير أنفسهم بشكل متكرر في أوضاع مثالية، ويحرصون على إبراز مظاهر الجمال الخارجي والمكانة الاجتماعية.
3. اضطرابات تشوه صورة الجسد (Body Dysmorphic Disorder)
هناك نسبة من الأفراد الذين يستخدمون السيلفي كوسيلة للبحث المستمر عن الكمال الجسدي، حيث يقومون بالتقاط عدد هائل من الصور بحثًا عن الصورة “المثالية”، وهو سلوك قد يكون مؤشرًا على اضطراب تشوه صورة الجسد، وهو اضطراب نفسي يتسم بالانشغال المفرط بعيوب ظاهرية بسيطة أو غير موجودة أصلًا.
4. الإدمان الرقمي
من بين أخطر الأبعاد النفسية لظاهرة السيلفي هو ارتباطها بالإدمان، خصوصًا عندما يصبح الفرد مهووسًا بالتقاط الصور بشكل متكرر يوميًا، ويشعر بالقلق أو التوتر في حال لم يستطع نشر صورة جديدة. يُطلق بعض الباحثين على هذه الحالة “selfitis”، أي التهاب السيلفي، وهي حالة وصفها البعض مبدئيًا بأنها مزحة، لكنها سرعان ما أصبحت موضع دراسة جدية في علم النفس.
تصنيف السيلفي كمؤشر مرضي
نشرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي مقترحًا أوليًا في 2014 لدراسة حالة “التهاب السيلفي”، وجرى تصنيفها في ثلاثة مستويات:
| النوع | الوصف |
|---|---|
| Selfitis الحدّي | التقاط 3 صور سيلفي يوميًا دون نشرها. |
| Selfitis الحاد | التقاط أكثر من 3 صور يوميًا ونشرها على مواقع التواصل. |
| Selfitis المزمن | دافع لا يُقاوم لالتقاط الصور باستمرار مع نشرها أكثر من 6 مرات يوميًا. |
هذا التصنيف وإن لم يُدرج بعد في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية (DSM)، إلا أنه يعكس اعترافًا متزايدًا بوجود سلوك مَرَضي يرتبط باستخدام السيلفي بشكل مفرط.
الدوافع الاجتماعية والثقافية لانتشار السيلفي
1. الثقافة الرقمية وثقافة “الإعجاب”
في المجتمع الرقمي المعاصر، أصبح “الإعجاب” (Like) و”المتابعة” (Follow) رمزين للقبول الاجتماعي. يدفع هذا الواقع بعض الأشخاص إلى تصوير أنفسهم باستمرار بهدف تعزيز حضورهم الرقمي والحصول على اعتراف اجتماعي حتى لو كان افتراضيًا.
2. تأثير المشاهير والمؤثرين
تلعب الشخصيات المؤثرة على مواقع التواصل دورًا كبيرًا في تعزيز ثقافة السيلفي. إذ يتبع الكثير من الناس خطوات هؤلاء المشاهير، ويقلدون أسلوب تصويرهم ومحتواهم، حتى وإن لم يكن مناسبًا لسياقهم الشخصي أو النفسي.
3. غياب الرقابة النفسية الذاتية
يفتقر العديد من مستخدمي الإنترنت، خصوصًا من فئة الشباب، إلى وعي نفسي كافٍ لمراقبة دوافعهم الحقيقية عند التقاط الصور ونشرها. هذا الغياب في الرقابة قد يؤدي إلى سلوكيات تعكس هشاشة في الهوية النفسية واحتياجًا مفرطًا للتقدير الخارجي.
الفرق بين الاستخدام الصحي والإدماني للسيلفي
الاستخدام الصحي:
-
توثيق اللحظات السعيدة بطريقة متوازنة.
-
التقاط صور سيلفي على فترات دون هوس.
-
نشر الصور دون ارتباط شديد بتعليقات الآخرين.
-
الوعي الكامل بأن الصورة لا تعبر عن القيمة الذاتية للفرد.
الاستخدام الإدماني:
-
الشعور بالقلق أو التوتر عند عدم التقاط صور جديدة.
-
التقاط عشرات الصور يوميًا وحذف أغلبها بحثًا عن المثالية.
-
ربط قيمة الذات بعدد الإعجابات أو التعليقات.
-
المقارنة المستمرة مع الآخرين وإحساس بالنقص.
تأثير السيلفي على الصحة النفسية والاجتماعية
أظهرت دراسات متعددة أن الإفراط في التقاط السيلفي ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يرتبط بزيادة مستويات القلق والاكتئاب، خاصة عند عدم الحصول على التفاعل المتوقع. كما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات في النوم، وضعف في العلاقات الاجتماعية الواقعية، والشعور بالعزلة النفسية رغم كثرة المتابعين.
في دراسة أُجريت على مجموعة من الشباب في الهند، وُجد أن من يعانون من “التهاب السيلفي” المزمن أظهروا معدلات أعلى من الاضطرابات النفسية مقارنة بأقرانهم الذين لا يفرطون في التصوير الذاتي. كما لاحظ الباحثون وجود ارتباط قوي بين عدد صور السيلفي المنشورة يوميًا ومستوى القلق الاجتماعي.
العوامل النفسية المرتبطة بالإفراط في السيلفي
-
انخفاض احترام الذات: محاولة إثبات الذات عبر الصور.
-
القلق الاجتماعي: الرغبة في إثبات الوجود والقبول.
-
الشعور بالوحدة: تعويض العلاقات الواقعية بالتفاعل الافتراضي.
-
الخوف من الإهمال الرقمي (FOMO): وهو الخوف من أن يفوّت الشخص حدثًا رقميًا أو تفاعلًا مهمًا.
-
التعلق المرضي بالمظهر الخارجي: تقوية الروابط النفسية بالمظهر بدلًا من الجوهر.
الوقاية والعلاج
من المهم التفرقة بين من يستخدم السيلفي لأغراض عادية ومن يعاني من اضطراب نفسي يحتاج إلى تدخل مهني. يمكن أن يشمل العلاج:
-
العلاج المعرفي السلوكي (CBT): لمساعدة الأفراد على تحديد أنماط التفكير السلبية المرتبطة بالصورة الذاتية وتصحيحها.
-
تقليل استخدام وسائل التواصل: عبر وضع حدود زمنية.
-
تنمية الوعي الذاتي: لفهم الدوافع النفسية خلف الحاجة المستمرة لالتقاط الصور.
-
بناء العلاقات الواقعية: كوسيلة لتعزيز القبول والهوية دون الحاجة لوسائل رقمية.
-
التثقيف النفسي: حول تأثير التكنولوجيا على السلوك النفسي، خاصة لدى الأطفال والمراهقين.
خاتمة
ظاهرة السيلفي تعكس أبعادًا معقدة تتجاوز حدود التصوير العادي، فهي تمثل مرآة لسلوك الإنسان الحديث وتفاعلاته النفسية والاجتماعية في زمن الرقمنة. وبينما قد يكون السيلفي أداة ممتعة للتعبير عن الذات، فإن الإفراط فيه قد يحمل دلالات مَرَضية تحتاج إلى وعي وتدخل علاجي في بعض الحالات. التوازن في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز الصحة النفسية، وبناء تقد
