بناتنا.. وهوس الريجيم
في زمننا المعاصر، أصبح الهوس باللياقة البدنية والوزن المثالي أحد أكثر المواضيع تداولاً بين الفتيات والنساء على وجه الخصوص. هذه الظاهرة تتجاوز مجرد الاهتمام بالصحة العامة أو الرغبة في الحفاظ على جسم رشيق. إنها ترتبط بشكل وثيق بثقافة العصر الحديث التي تروج لصورة الجسم المثالي، التي غالبًا ما تكون غير قابلة للتحقيق بالنسبة لمعظم النساء. تتجلى هذه الظاهرة في ما يعرف “بهوس الريجيم”، الذي لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عنه أو نراه في محيطنا الاجتماعي.
يشير “هوس الريجيم” إلى اهتمام مبالغ فيه بفقدان الوزن أو السعي وراء الجسم المثالي، حتى في حال عدم وجود حاجة صحية لذلك. ويأتي هذا الهوس كنتيجة لعدة عوامل متشابكة، لعل أبرزها تأثير وسائل الإعلام، وتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، والعوامل الثقافية والمجتمعية التي تروج لأيديولوجيا الجسم المثالي.
1. ثقافة وسائل الإعلام وتأثيرها
منذ عقود طويلة، سيطرت وسائل الإعلام على الصورة المثالية للجسم. سواء من خلال الأفلام، أو الإعلانات التجارية، أو حتى الإعلام الاجتماعي، أصبحت الصور التي تعرضها وسائل الإعلام تُعتبر المعيار الجمالي. صورة العارضة الرفيعة ذات الجسم النحيف والطويل أصبحت هي الصورة التي يجب أن تسعى إليها الفتيات. لم يكن الأمر مقتصرًا فقط على المراهقات، بل كان يشمل النساء في جميع الأعمار.
ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مثل “إنستجرام” و”تيك توك” و”فيسبوك”، أصبح الانغماس في عالم الصور المثالية أكثر وضوحًا. فصور المشاهير والفتيات اللاتي يروجن لأنظمة غذائية معينة أصبح لها تأثير قوي في تشكيل قناعات الشباب حول ما هو “الجسم المثالي”. في ظل هذه البيئة، تجد العديد من الفتيات أنفسهن تحت ضغط كبير، مما يدفعهن إلى اتباع أنظمة غذائية قاسية أو حتى اللجوء إلى وسائل غير صحية لتقليل وزنهن.
2. المعايير المجتمعية والثقافية
ثقافة المجتمع تلعب دورًا محوريًا في ترويج هذا الهوس. ففي الكثير من الثقافات، لا يُنظر إلى الجسم النحيف فقط كدليل على الجمال، بل يُعتبر أيضًا دليلاً على القوة والسيطرة. يترسخ هذا التصور من خلال وسائل الإعلام، ومن خلال الموروث الثقافي الذي ينقل عبر الأجيال. يصبح الحصول على جسم رشيق أمراً ضرورياً للفتيات ليشعرن بأنهن مقبولات اجتماعيًا.
التأثيرات المجتمعية على النساء، سواء من العائلة أو الأصدقاء أو حتى من الغرباء، يمكن أن تكون شديدة جدًا. فالفتيات في العديد من المجتمعات يواجهن ضغوطًا اجتماعية للامتثال لتصورات معينة للجمال، وهذا في بعض الأحيان يؤدي بهن إلى اتباع أنظمة غذائية صارمة أو إلى الشعور بالذنب عندما لا يستطعن بلوغ هذه المعايير.
3. الصحة النفسية وعلاقة الطعام بالجسم
من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى هوس الريجيم، هي المشاكل النفسية والعاطفية التي قد تواجهها الفتيات. يرتبط الكثير من الأشخاص بتصورهم للجسم بشكل عميق بمشاعرهم الذاتية وقيمتهم الذاتية. الفتاة التي تجد نفسها غير راضية عن شكل جسمها قد تبتعد عن الطعام أو تتبع أنظمة غذائية صارمة أملاً في تحسين صورتها الذاتية.
يمكن أن يؤدي هوس الريجيم إلى مشاكل نفسية مثل اضطرابات الطعام (كالشره العصبي أو فقدان الشهية العصبي) التي قد تضر بالصحة بشكل كبير. في حالات كثيرة، قد يشعر الشخص الذي يعاني من هذا الهوس أن الوزن هو المعيار الوحيد لتحديد قيمته في المجتمع، مما يعزز من مشاعر القلق والاكتئاب.
4. الريجيمات السريعة والأنظمة الغذائية القاسية
من أبرز تجليات هوس الريجيم هو الإقبال على الأنظمة الغذائية السريعة التي تعد بفقدان الوزن في وقت قصير. مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت العديد من المدونات والمتأثرين بالثقافة الرقمية في الترويج لأنواع مختلفة من الريجيمات التي تعد بنتائج سريعة. وبالرغم من أن هذه الأنظمة قد تؤدي إلى فقدان الوزن بشكل مؤقت، إلا أن تأثيراتها على الجسم على المدى الطويل قد تكون كارثية.
العديد من هذه الأنظمة لا تتبع أسسًا علمية، بل تعتمد على تقليل كميات الطعام بشكل قاسي أو استبعاد مجموعات غذائية معينة بشكل غير متوازن. في النهاية، قد يؤدي ذلك إلى نقص في العناصر الغذائية الأساسية، مما ينعكس سلبًا على صحة الجسم والعقل.
5. الهوس بالصورة الرقمية للجسم
في عصر الهواتف الذكية ووسائل الإعلام الاجتماعية، لا تقتصر الضغوط فقط على صورة الجسم التقليدية في الحياة اليومية، بل تمتد أيضًا إلى الصورة التي تظهر عبر الشاشة. “التصفية” (فلترة الصور) وتعديل الصور ليبدو الجسم أكثر رشاقة أصبح أمرًا روتينيًا على منصات مثل إنستجرام وسناب شات. هذا التعديل يجعل الفتيات يتعرضن لصور غير واقعية لأجسام الآخرين، مما يعزز الهوس بالمقارنة والبحث المستمر عن صورة مثالية.
يخلق هذا الواقع الرقمي صراعًا داخليًا عند الكثير من الفتيات، اللاتي يشعرن أن أجسادهن لا تساوي شيئًا مقارنة بما يشاهدنه يوميًا على هذه المنصات. تزداد هذه الظاهرة انتشارًا عندما تُروج الإعلانات التجارية لمنتجات تحسينية لصور الجسم، مثل الكريمات أو المكملات الغذائية التي تعد بتقليل الوزن بشكل سحري.
6. دور التربية الأسرية في تشكيل المفاهيم
للأسرة دور مهم في تشكيل مفاهيم الفتيات حول الجسم والطعام. عندما تنشأ الفتاة في بيئة تشدد على أهمية المظهر الخارجي بشكل مفرط، يمكن أن ينمو لديها هوس بالوزن والشكل الجسمي. قد تبدأ الفتاة في سن مبكرة بملاحظة تعليقات سلبية حول وزنها أو شكل جسمها، سواء من الأقارب أو الأصدقاء، مما قد يخلق صورة سلبية عن نفسها.
في المقابل، يمكن أن تساهم الأسرة في تعزيز مفاهيم صحية تتعلق بالجسم والطعام، من خلال تشجيع الأكل المتوازن واهتمامها بالصحة العامة دون التركيز على المظهر الخارجي فقط.
7. التوعية بأهمية الصحة الشاملة
على الرغم من الهوس المنتشر بالمظهر الجسدي، هناك توجهات متزايدة نحو أهمية الاهتمام بالصحة العامة بدلاً من التركيز على وزن الجسم فقط. هذه التوجهات تدعو إلى تبني نمط حياة صحي يشمل ممارسة الرياضة بشكل منتظم، وتناول الطعام المتوازن، والحفاظ على الصحة النفسية.
مع تنامي الوعي حول الصحة النفسية والبدنية، بدأ بعض المؤثرين والمختصين في التغذية واللياقة البدنية في نشر رسائل إيجابية حول تقبل الجسم كما هو، وتعلم كيفية العناية به دون السعي نحو معايير غير واقعية. وتشمل هذه الرسائل تحفيز الفتيات على تطوير علاقة صحية مع الطعام واللياقة البدنية.
8. الختام
إن هوس الريجيم لدى بناتنا أصبح ظاهرة تستحق الوقوف عندها والتأمل في تأثيراتها على صحتهم النفسية والجسدية. من المهم أن ندرك أن هذا الهوس لا ينبع فقط من الرغبة في الحصول على جسم مثالي، بل يرتبط أيضًا بثقافة المجتمع والتأثيرات الإعلامية والتكنولوجية التي تروج لصور غير واقعية للجمال. الفتيات بحاجة إلى الدعم والإرشاد للتعامل مع هذه الضغوطات بشكل صحي وواقعي.
