من قال هلك الناس فهو أهلكهم
في الحياة اليومية، قد يتعرض الفرد للكثير من التحديات والمواقف التي تجعله يشعر بالإحباط أو الضعف، وقد يتأثر بما يراه من تصرفات الآخرين أو ما يسمعه من كلمات وأقوال. من بين هذه الأقوال التي قد يمر بها الإنسان، نجد قولًا قد يبدو غريبًا ولكنه يحمل في طياته معاني عميقة وأبعادًا فلسفية هامة، وهو: “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”. تعود هذه المقولة إلى حديث نبوي شريف، وقد حظيت هذه المقولة بتفسير طويل وعميق في التراث الإسلامي والعربي، إذ تتعدى مجرد كلمات عابرة إلى قاعدة أخلاقية وفكرية عن كيفية نظر الإنسان إلى العالم من حوله.
تفسير المقولة في السياق الديني
تعتبر هذه المقولة جزءًا من سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث جاءت في سياق الحديث عن التحذير من الاستهانة بشؤون الناس وتعميم الأحكام عليهم. يروي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”، أي أن الشخص الذي يظن أن الناس قد هلكوا أو تاهوا أو ضلوا الطريق هو في الواقع من يضر نفسه ويهلك. فالنظرة المتشائمة للناس والتعامل مع الآخرين بحكم قاسي أو جازم يعتبر خطأً كبيرًا لأنه يؤدي إلى إبعاد النفس عن التفاؤل والرؤية الموضوعية للأمور.
أحد أبعاد الحديث هو تحذير من أن التعميم السريع للأحكام على الآخرين قد يكون السبب في تهلكة الإنسان نفسه. فالذي يرى الناس هالكين أو ضالين، يثبت بذلك أنه قد اختار أن يعيش في عالم مملوء باليأس، غير قادر على رؤية النور في الطريق. بالإضافة إلى ذلك، من خلال هذا الحديث النبوي نجد دعوة للتواضع وللتريث في الحكم على الناس وأفعالهم، خاصة عندما يبتعد الإنسان عن معرفة الأسباب الحقيقية التي قد تقود الآخرين إلى تصرفات معينة.
التأثيرات النفسية للمقولة
إن النظر إلى المقولة “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” يمكن أن يفتح مجالًا لفهم التأثير النفسي الذي قد يتركه الشخص الذي يميل إلى التشاؤم أو السلبية على نفسه وعلى من حوله. عندما يتبنى الإنسان هذا الفكر، فإنه يصبح محاطًا بأجواء سلبية تؤثر على صحته النفسية والعاطفية. قد يصاب الشخص الذي ينظر إلى الناس بعين التشاؤم بالحزن العميق أو الإحباط المستمر، مما يجعله يعيش في دائرة مغلقة من التفكير السلبي الذي يصعب الخروج منها.
كما أن هذا النوع من التفكير قد ينعكس على علاقات الشخص مع الآخرين. فبدلًا من أن تكون العلاقات بين الناس مبنية على التفاؤل والثقة، يصبح التفاعل مع الآخرين مشبعًا بالشكوك والانتقادات السلبية. وإذا كانت هذه النظرة القاتمة تصبح سمة أساسية في حياة الإنسان، فإنها قد تؤدي إلى العزلة الاجتماعية والانغلاق على الذات، مما يزيد من احتمالية الشعور بالعزلة والاكتئاب.
العلاقة بين المقولة والعدالة الاجتماعية
في إطار أوسع، يمكن أن تساهم المقولة “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” في تناول موضوع العدالة الاجتماعية. ففي المجتمعات التي تشهد تفاوتًا في الطبقات الاقتصادية والاجتماعية، قد تبرز بعض الفئات الاجتماعية التي تشعر بأن أغلبية الناس ضائعة أو هالكة. قد يحدث هذا التعميم نتيجة للأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية التي تمر بها بعض الفئات في المجتمع. لكن من المهم أن نتذكر أن كل فرد في المجتمع له ظروفه الخاصة وقدراته الشخصية، وليس من العدل الحكم على الناس بأنهم هلكوا لمجرد أنهم يعيشون في ظروف صعبة أو يواجهون تحديات غير مرئية.
العدالة الاجتماعية تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الفردية والظروف المحيطة بالأشخاص قبل أن نصدر حكمًا عليهم. فالتعاطف والرحمة والتفاهم هي القيم التي يجب أن تحكم تعاملنا مع الآخرين، لأن من حق كل فرد أن يُمنح فرصة للتغيير والتحسين. تلك النظرة المتفائلة قد تكون هي السبيل الوحيد لإحداث تحول حقيقي في المجتمع، بحيث نعمل معًا كأفراد في مجموعة لتحقيق العدالة والرفاهية الاجتماعية.
التفسير الفلسفي للمقولة
عند التعمق أكثر في تفسير المقولة “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”، نجد أن لها بُعدًا فلسفيًا عميقًا، يعبر عن الرؤية المتشائمة أو السلبية التي يمكن أن تستهلك الإنسان. يضع الفيلسوف هذا النوع من التفكير في فئة “التعميم العقلي” الذي لا يعترف بالتعددية ولا بالفرص المتاحة للنمو والتحول. إن التعميم السريع لأي ظاهرة في الحياة يؤدي إلى تجميد الفكر البشري ومنعه من التفاعل الإيجابي مع الواقع، وهو ما يؤدي إلى الانهزام الداخلي. فالتفكير المتشائم يعمق الإحساس بالعجز ولا يسمح بفرص جديدة.
وفي المقابل، فإن الفلسفة التي تدعو إلى التفاؤل وإلى الاعتراف بوجود الأمل ترفض التعميم وتحتفل بالاختلاف والتنوع. فالحياة مليئة بالتحديات، والأشخاص مختلفون في قدراتهم وتطلعاتهم. ومن خلال هذه الفلسفة، يمكن للإنسان أن يرى في كل محنة فرصة للنمو والتطور، بل ويتحول التحدي إلى محفز يساهم في بناء الشخصية وتقويتها.
تطبيق المقولة في الحياة اليومية
تعتبر المقولة “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” بمثابة دعوة للتحلي بالمرونة والإنسانية في التعامل مع الآخرين. في الحياة اليومية، نرى العديد من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض بأحكام سريعة وأراء غير موضوعية. ربما يحكم البعض على من هم في وضع اجتماعي أو اقتصادي أقل حالًا أنهم هلكوا، دون أن يدركوا الظروف التي قد أدت إلى هذه الحالة. إن هذه النظرة غير العادلة تسهم في استمرار فجوات التفاهم بين الأفراد، وتؤدي إلى تعميق الفجوات بين الطبقات الاجتماعية، مما يمنع المجتمع من التعاون والتعاطف المتبادل.
من جانب آخر، إن التواضع والاعتراف بأننا لا نعرف كل شيء عن الآخرين هو خطوة أولى نحو بناء مجتمع أكثر إنسانية. فإذا نظرنا إلى البشر من حولنا بعين التفهم والتعاطف، فإننا نكون بذلك نكسر حلقة التشاؤم ونتجه نحو بيئة اجتماعية أكثر إيجابية.
في الختام
إن المقولة “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” تحمل في طياتها رسالة هامة لكل فرد منا. فالتشاؤم والتعميم لا يؤديان إلى شيء سوى إغلاق الفرص أمام الإنسان من أجل التحسن والنمو. وبالعكس، يجب على كل واحد منا أن يتجنب الحكم الجائر على الآخرين، وأن يسعى إلى فهم الظروف المحيطة بهم وأسباب تصرفاتهم. فقط من خلال هذه النظرة الإنسانية المتعاطفة، نستطيع أن نبني مجتمعًا متماسكًا وقويًا، قادرًا على مواجهة التحديات بروح من التعاون والتفاهم.
