هاشم الوتري: رائد الطب والتعليم الطبي في العراق

المقدمة

هاشم الوتري، أحد أعلام الطب في العراق والعالم العربي، يشكّل رمزاً للنهضة العلمية والطبية في النصف الأول من القرن العشرين. كان له دور بارز في تحديث التعليم الطبي، وإرساء معايير مهنية عالية في ممارسة الطب، فضلاً عن مساهماته الواسعة في مجال الصحة العامة والتشريعات الصحية. وُلد الوتري في بيئة علمية واجتماعية ساعدت على صقل مواهبه واهتماماته العلمية منذ سنواته الأولى، ليتحوّل لاحقاً إلى أحد أبرز مؤسسي الطب الحديث في العراق.

تميزت حياة هاشم الوتري بالعمل الدؤوب والتفاني في خدمة الوطن من خلال العلم، حيث جمع بين الأدوار الأكاديمية والإدارية والطبية، وترك إرثاً علمياً ومهنياً امتد تأثيره إلى أجيال متعددة من الأطباء العراقيين والعرب. كان من الرواد القلائل الذين أدركوا أهمية المواءمة بين العلوم الطبية الحديثة والواقع الاجتماعي والثقافي العراقي، فعمل على تحديث المناهج وتطوير مؤسسات التعليم الطبي بما يخدم البلاد والعباد.

النشأة والتعليم

وُلد الدكتور هاشم الوتري في بغداد عام 1893 لعائلة عرفت بالعلم والثقافة. تلقى تعليمه الأساسي في مدارس بغداد، قبل أن ينتقل إلى إسطنبول لإكمال دراسته الجامعية. التحق بكلية الطب العثمانية في إسطنبول، حيث تخرج طبيباً عام 1918، وهو العام الذي شهد نهاية الدولة العثمانية وبداية الاحتلال البريطاني للعراق. أثناء دراسته، أظهر الوتري تفوقاً علمياً واضحاً، واهتماماً مبكراً بالجوانب البحثية والتنظيمية للمهنة الطبية.

عقب تخرجه، عاد إلى العراق ليسهم في تأسيس نظام صحي حديث، في وقت كان فيه العراق يعاني من ضعف كبير في البنية التحتية الصحية وندرة الأطباء المؤهلين. ساعده تكوينه الأكاديمي المزدوج، الذي مزج بين التراث الطبي الإسلامي والمعارف الطبية الحديثة، على أن يكون جسراً بين القديم والجديد، وأن يلعب دوراً مركزياً في بناء مؤسسات الطب والتعليم الطبي في العراق.

المسيرة المهنية

بدأ الوتري عمله كطبيب في المستشفيات العراقية، ولا سيما في بغداد، حيث كان عدد الأطباء العراقيين آنذاك قليلاً جداً. ونتيجة لكفاءته العالية، اختير سريعاً لشغل مناصب إدارية وتعليمية مرموقة. تولى منصب عميد كلية الطب العراقية عام 1937، وكان أول طبيب عراقي يشغل هذا المنصب، بعد أن كانت الكلية تحت إشراف البريطانيين منذ تأسيسها عام 1927.

أثناء توليه عمادة الكلية، سعى إلى “عراقنة” التعليم الطبي، أي جعل الكلية مستقلة أكاديمياً وإدارياً عن الهيمنة البريطانية. كما قام بتحديث المناهج الدراسية، وتطوير المختبرات والمستشفيات التعليمية، وتوسيع طاقم التدريس ليشمل أساتذة عراقيين من أصحاب الكفاءة العالية. شجع البحث العلمي، وكان من أوائل من وضعوا اللبنات الأولى للبحوث الطبية في العراق، عبر إصدار الدوريات والنشرات العلمية.

إلى جانب عمله الأكاديمي، شغل الوتري مناصب مهمة في وزارة الصحة العراقية، وكان من أبرز المساهمين في وضع السياسات الصحية والتشريعات الطبية. وكان له دور في تنظيم المهنة الطبية، ووضع معايير صارمة لاعتماد الأطباء ومؤسسات التدريب، في وقت كانت فيه البلاد بحاجة ماسة إلى نظام صحي متكامل.

إسهاماته في التعليم الطبي

يمكن القول إن أبرز إسهامات هاشم الوتري كانت في مجال التعليم الطبي. فخلال رئاسته لكلية الطب، أطلق عدة مبادرات هدفت إلى الارتقاء بمستوى الخريجين، وجعلهم قادرين على العمل بكفاءة في مختلف أنحاء العراق، لا سيما في المناطق الريفية التي كانت تعاني من نقص حاد في الخدمات الصحية.

تحديث المناهج

أدخل الوتري تعديلات جوهرية على المنهج الطبي العراقي، متأثراً بالنماذج التعليمية الأوروبية، لكنه راعى في الوقت ذاته خصوصية البيئة العراقية. حرص على تدريس المواد الطبية بلغة عربية فصيحة مدعومة بالمصطلحات العلمية اللاتينية، لتسهيل الفهم والربط بين العلم والواقع. كما شدد على الجانب العملي والتطبيقي في التدريب، مع التركيز على الحالات المرضية المنتشرة في العراق، مثل الملاريا والتدرّن وأمراض الجهاز الهضمي.

دعم البحوث العلمية

شجع الوتري على إجراء البحوث الطبية ونشرها في مجلات محلية وعالمية. أسس مجلة “المجلة الطبية العراقية” لتكون منبراً لنشر البحوث العلمية العراقية، ووسيلة لتعزيز التواصل بين الأطباء والباحثين. كما أرسى قواعد البحث العلمي، وحدد معايير للنزاهة والدقة في العمل البحثي، وهو ما أسهم في نشوء تقاليد بحثية ما زالت مؤثرة حتى اليوم.

تدريب الكوادر الطبية

أنشأ برامج خاصة لتدريب الأطباء الشباب، وأوفد العديد منهم إلى الخارج للحصول على شهادات عليا، ثم استعان بهم لتدريب الأجيال التالية. كان يؤمن بأن بناء الإنسان المؤهل هو الطريق الأنجع لتطوير النظام الصحي، ولهذا لم يتوانَ عن بذل الجهد والوقت في سبيل تأهيل الكوادر الطبية الوطنية.

دوره في تطوير النظام الصحي العراقي

امتدت إسهامات هاشم الوتري إلى خارج أسوار الجامعة، حيث شارك في تأسيس البنية التحتية للنظام الصحي في العراق. كان عضواً في لجان وطنية لصياغة التشريعات الطبية، وساهم في إنشاء مستشفيات ومراكز صحية في مختلف المدن العراقية.

أشرف على إعداد نظام تسجيل الأطباء ومنح التراخيص الطبية، وحرص على أن يتم ذلك وفق معايير مهنية دقيقة، بعيداً عن الاعتبارات الشخصية أو السياسية. كما ساعد في تنظيم نقابة الأطباء، وكان أحد مؤسسيها الأوائل، حيث سعى إلى أن تكون النقابة منبراً للدفاع عن حقوق الأطباء، ومركزاً للتطوير المهني المستمر.

الجدول التالي يوضح أبرز مناصب هاشم الوتري ومسيرته المهنية:

الإرث العلمي والمهني

لا يقتصر إرث هاشم الوتري على المناصب التي شغلها، بل يمتد إلى التأثير العميق الذي تركه في عقول وقلوب الأطباء والطلبة. كان نموذجاً للعالم المخلص، والطبيب الإنساني، والإداري الكفء. أسهم في ترسيخ قيم المهنية والانضباط، وشجع على التفكير النقدي والاستقلال العلمي.

تركت مقالاته ومحاضراته أثراً بالغاً في المجتمع الطبي العراقي، وتم الاستشهاد بها في الكثير من المؤلفات والبحوث. كما أنّ دوره في تأهيل أجيال من الأطباء، الذين شغلوا مناصب علمية وإدارية لاحقاً، يجعله واحداً من أبرز الشخصيات المؤسسة للطب الحديث في العراق.

تكريماته وذكراه

نال هاشم الوتري خلال حياته وبعد وفاته العديد من التكريمات، سواء من الدولة أو من مؤسسات طبية وأكاديمية. أُطلقت اسمه على قاعات دراسية ومراكز صحية، تخليداً لذكراه. كما أُدرج اسمه في الموسوعات الطبية العراقية والعربية كأحد الرواد.

ألفت عنه كتب وسير ذاتية، وخصصت له مقالات في مجلات علمية وثقافية متعددة. وتم تداول اسمه ضمن البرامج الأكاديمية كأحد الشخصيات التي ينبغي للطلاب التعرف على سيرتها للاستفادة من تجربتها الملهمة.

الخاتمة

إن سيرة هاشم الوتري تمثل صفحة مضيئة في تاريخ العراق العلمي والطبي. فهو لم يكن مجرد طبيب أو إداري، بل كان مهندساً لنهضة طبية متكاملة، ساهمت في تغيير وجه التعليم الصحي والخدمات الطبية في العراق. ترك بصمته في كل جانب من جوانب المهنة، من المناهج الدراسية إلى السياسات الصحية، ومن تنظيم المهنة إلى تعزيز البحث العلمي.

ولأن إرثه لا يزال حاضراً في مؤسسات العراق الطبية والتعليمية، فإن هاشم الوتري يستحق أن يُذكر بوصفه علماً من أعلام العراق المعاصر، ورمزاً للنهضة العلمية التي تبقى نبراساً للأجيال القادمة.

المصادر:

1. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج5، مطبعة دار الحكمة، بغداد، 1970.

2. مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد الخاص بسيرة الأطباء الرواد، بغداد، 1982.