نيكولا تسلا: عبقري الكهرباء وأب التكنولوجيا الحديثة

المقدمة

نيكولا تسلا، أحد أعظم العقول في تاريخ العلم والتكنولوجيا، يُعدّ من الرواد الذين أسهموا في تشكيل البنية التحتية للكهرباء الحديثة. وُلد تسلا في القرن التاسع عشر، لكنه ترك إرثاً علمياً سبق عصره بكثير. أعماله وابتكاراته لم تقتصر على الكهرباء فحسب، بل امتدت لتشمل مجالات مثل الموجات الكهرومغناطيسية، والاتصالات اللاسلكية، والمحركات الكهربائية، وحتى الروبوتات والذكاء الاصطناعي. ورغم أن اسمه كثيراً ما طغى عليه ظل معاصريه مثل توماس إديسون، إلا أن العصر الحديث يعيد لتسلا مكانته المستحقة كأحد العباقرة المبدعين الذين غيّروا وجه العالم.

النشأة والتعليم

وُلد نيكولا تسلا في 10 يوليو 1856 في قرية سميلجان، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية (تقع الآن في كرواتيا). نشأ في بيئة مثقفة؛ فوالده كان كاهناً في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وكاتباً، بينما كانت والدته، رغم عدم تلقيها التعليم الرسمي، موهوبة في الاختراع وصناعة الأدوات المنزلية.

التحق تسلا بمدرسة ريالتو الثانوية، ثم درس الهندسة الكهربائية في معهد البوليتكنيك في غراتس بالنمسا. تميز تسلا بذاكرة فوتوغرافية وقدرة استثنائية على تصور الآلات ذهنياً دون الحاجة إلى رسمها، وهي قدرة ساعدته لاحقاً في تنفيذ اختراعاته.

الرحلة إلى أمريكا

في عام 1884، انتقل تسلا إلى الولايات المتحدة، حاملاً خطاب توصية إلى توماس إديسون. بدأ العمل معه لفترة قصيرة، لكن سرعان ما نشب خلاف بينهما بسبب اختلاف المفاهيم حول التيار الكهربائي؛ حيث كان إديسون من أنصار التيار المباشر (DC)، بينما آمن تسلا بجدوى التيار المتناوب (AC)، الذي أصبح فيما بعد النظام المعتمد عالمياً لنقل الكهرباء.

التيار المتناوب والثورة الكهربائية

يُعدّ اعتماد التيار المتناوب أحد أهم إنجازات تسلا وأكثرها تأثيراً في التاريخ البشري. التيار المتناوب يمكن نقله لمسافات طويلة بكفاءة أكبر من التيار المباشر، مما جعله الخيار الأمثل لبناء شبكات كهربائية وطنية. عقد تسلا شراكة مع رجل الأعمال الأمريكي جورج ويستينغهاوس، الذي تبنّى أفكاره وساعده على تنفيذها عملياً، رغم معارضة إديسون الشرسة.

الحرب الكهربائية

دارت حرب شرسة بين إديسون وويستينغهاوس حول أي نظام يجب اعتماده: التيار المباشر الذي يدعمه إديسون، أم التيار المتناوب الذي يدعمه تسلا. استخدم إديسون أساليب دعائية غير أخلاقية لتشويه سمعة التيار المتناوب، من بينها تنفيذ أول إعدام بواسطة الكرسي الكهربائي باستخدام التيار المتناوب ليبدو أكثر خطورة. ومع ذلك، تفوق نظام تسلا في النهاية، خاصة بعد نجاحه في إضاءة معرض شيكاغو العالمي عام 1893 باستخدام التيار المتناوب.

أهم الاختراعات والابتكارات

1. المحرك الكهربائي متعدد الأطوار

كان اختراع تسلا لمحرك كهربائي يعمل بالتيار المتناوب متعدد الأطوار إنجازاً ثورياً مكّنه من الحصول على براءة اختراع عام 1888. هذا المحرك كان الأساس لنقل الكهرباء وتشغيل الآلات الصناعية الحديثة.

2. ملف تسلا

اخترع تسلا ملفاً كهربائياً عالي الجهد يُعرف بـ “ملف تسلا”، والذي يُستخدم حتى اليوم في التطبيقات الطبية والفيزيائية، مثل أجهزة الأشعة السينية والتجارب المتعلقة بالكهرباء اللاسلكية. يتميز هذا الملف بقدرته على توليد تيارات كهربائية عالية التردد.

3. الراديو والاتصالات اللاسلكية

على الرغم من أن غولييلمو ماركوني يُعتبر غالباً مخترع الراديو، إلا أن تسلا كان قد حصل على براءات اختراع قبل ماركوني بسنوات. في الواقع، ألغت المحكمة العليا الأمريكية براءة اختراع ماركوني في عام 1943 بعد وفاته، وأعادت الفضل لتسلا.

4. الطاقة اللاسلكية

حلم تسلا بتوفير الطاقة الكهربائية مجاناً وبشكل لاسلكي للعالم بأسره. بنى برج “واردنكليف” في نيويورك عام 1901، وهو مشروع طموح لنقل الكهرباء عبر الهواء. رغم توقف التمويل من المستثمر جي بي مورغان، إلا أن البرج شكّل رمزاً لطموحات تسلا المستقبلية.

5. التحكم عن بعد

عرض تسلا لأول مرة في عام 1898 قاربه الذي يعمل بالتحكم عن بعد أمام الجمهور في حديقة ماديسون سكوير. هذه التكنولوجيا كانت سابقة لوقتها، وتُعدّ أساساً لما يُعرف اليوم بأنظمة التحكم اللاسلكي.

6. المولدات ومجال الموجات

اكتشف تسلا مفاهيم مرتبطة بالموجات الكهرومغناطيسية والرنين، وهو ما جعل الكثير من نظرياته أساساً للعديد من الابتكارات الحديثة في الطب، والفيزياء، والاتصالات.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين التيار المتناوب والتيار المباشر

الجانب الشخصي والفلسفي في حياة تسلا

تميز تسلا بشخصية غريبة الأطوار إلى حد ما، حيث كان يعيش حياة منعزلة، ولم يتزوج قط. كان نباتياً معظم حياته، وعُرف بأنه ينام فقط لساعات قليلة كل ليلة. كانت له طقوس يومية دقيقة جداً، وكان يعاني من وسواس النظافة. رغم ذلك، كانت له نظرة فلسفية تجاه الحياة والكون، حيث آمن بأن كل شيء في الكون يمكن فهمه من خلال الطاقة والتردد والاهتزاز.

كان تسلا يؤمن بأن التكنولوجيا يجب أن تكون وسيلة لتحسين حياة الإنسان وليس لتدميره. ورفض العديد من المشاريع التي كانت تهدف لاستخدام اختراعاته لأغراض عسكرية، وهو ما جعله يقاطع الكثير من الجهات الممولة لمشاريعه.

أفول نجمه ومعاناته المالية

رغم عبقريته واختراعاته العديدة، عانى تسلا من الفقر في أواخر حياته. فقد ترك الكثير من براءات اختراعه دون استغلال تجاري، ورفض في أحيان كثيرة العمل تحت إمرة رجال الأعمال. توفي في 7 يناير 1943 في غرفة صغيرة بأحد فنادق نيويورك، وحيداً ومفلساً. غير أن إرثه العلمي ظل حياً، وشكّل حجر الزاوية لتكنولوجيا القرن العشرين والواحد والعشرين.

الإرث العلمي والاعتراف المتأخر

بدأ الاعتراف بقيمة تسلا الحقيقية يتزايد بعد وفاته، خاصة في منتصف القرن العشرين. أطلقت وكالة ناسا اسمه على وحدة قياس كثافة الفيض المغناطيسي “تسلا (T)”, كما سُميت شركة “تسلا موتورز” الشهيرة في العصر الحديث باسمه، تخليداً لإسهاماته في مجال الكهرباء والطاقة.

استخداماته في التكنولوجيا الحديثة

يُستخدم نموذج تسلا في معظم الأجهزة الكهربائية الحديثة، من محركات الغسالات إلى توليد الطاقة في السدود. تقنيات الاتصالات اللاسلكية التي أسس لها هي اليوم أساس الإنترنت والهواتف المحمولة والأقمار الصناعية.

تسلا في الثقافة الشعبية

ظهر اسم تسلا كثيراً في الأدب، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، حتى أصبح رمزاً للعبقرية الغامضة. من بين الأفلام التي تناولت شخصيته: فيلم “The Prestige” الذي أدى فيه ديفيد بوي دور تسلا، وهو ما ساهم في تعزيز حضوره لدى الأجيال الجديدة.

الخلاصة

نيكولا تسلا ليس مجرد عالم أو مخترع، بل هو رؤية متقدمة لما يمكن أن يكون عليه العالم إذا ما اجتمعت المعرفة مع الطموح غير المحدود. مثّلت حياته تجسيداً لمعاناة العبقري مع عالم مادي لا يفهم القيم الحقيقية للعلم. ورغم أن التكنولوجيا الحديثة مدينة له بالكثير، فإن تسلا نفسه لم ينل في حياته التكريم الذي يستحقه. لكنه اليوم يُحتفى به كأيقونة للعلم والمعرفة، وكمصدر إلهام لكل من يسعى لتغيير العالم عبر الابتكار.

المصادر

1. Carlson, W. Bernard. Tesla: Inventor of the Electrical Age. Princeton University Press, 2013.

2. Seifer, Marc J. Wizard: The Life and Times of Nikola Tesla. Citadel Press, 1996.