نوادر أشعب: مواقف طريفة من حياة أشهر الطفيليين في الأدب العربي
يُعدّ أشعب بن جبير التَّيمي من أشهر الشخصيات الطريفة في الأدب العربي، وقد اشتهر بين الناس بلقب “أشعب الطفيلي”، نتيجة لحيلته في التطفل على مجالس الطعام وأخذ نصيبه من طعام الآخرين بطرق ذكية وغير مباشرة. كان أشعب مثالاً على الذكاء الفطري والقدرة على استغلال الفرص، حيث استطاع أن يجمع بين الدعابة والفطنة ليصبح رمزاً للفكاهة في الأدب العربي الكلاسيكي. وعلى الرغم من أنَّ أغلب القصص المرتبطة به تتسم بالطرافة، إلا أنَّها تحمل في طياتها رسائل عن المجتمع العربي في زمنه وكيفية تفاعله مع الأفراد الذين يملكون فهماً دقيقاً لموازين القوة والنفوذ.
نشأة أشعب ومسيرته
أشعب بن جبير، الذي عاش في العصر الأموي وتوفي في أوائل العصر العباسي، كان من مواليد البصرة. وكان يُقال إنَّ أشعب من أصول فقيرة، وكان يعمل في طفولته في مهنة بسيطة، لكنه اشتهر بسرعة في مجالس الخلفاء والأمراء. مع مرور الوقت، أصبح له سمعة قوية كأحد أبرز الشخصيات التي تجذب الأنظار في كل مكان يذهب إليه.
كان أشعب معروفاً بقدرته على فهم طبائع الناس ورغباتهم، واستطاع أن يتسلل إلى مجالس الطعام الكبيرة، سواء كانت في منازل الأغنياء أو عند حكام الدولة. ما يميز أشعب هو فطنته التي جعلته يقتنص الفرص بلطف ودهاء، حيث كان يحرص على أن يظهر بمظهر الشخص الذي لا يطلب الطعام بشكل مباشر، بل يستفز أو يثير المشاعر لدى الحاضرين بطريقة تضمن له نصيبه من الطعام دون أن يُتهم بالتطفل.
نوادر أشعب: مواقف لا تُنسى
من أبرز القصص التي ارتبطت بأشعب قصة تتعلق به عندما كان يحضر مجلساً كبيراً يقيمه أحد الأغنياء. كان المجلس عامراً بكل أنواع الطعام الفاخر، وبدأ الضيوف يتناولون الطعام، وأشعب جالس في زاوية يراقب الموقف بعينيه. كان لديه حسٌّ فني في التوقيت، وأدرك جيداً متى يشرع في طرح سؤاله أو تعليق ما يضمن له الحصول على ما يريد. وعندما وصل أحد الأطباق الفاخرة إلى جاره، بدأ أشعب في إشعال فضوله قائلاً: “لستُ أدري، هل هذا الطبق من طعام السماوات، أم أنه من طعام الأرض؟”. سرعان ما التفت الحاضرون إلى أشعب وأخذوا يسألونه عن سبب هذا التعليق. استغلَّ أشعب الموقف ليقول: “إنني أفكر في الأمر منذ دخلت هذا المجلس، لكنني لا أريد أن أحرج المضيف. يبدو أن الطبق جميل جداً لدرجة أنه يثير الإعجاب!”
وقد أدت هذه الكلمات إلى أن يبدأ الناس في الحديث عن الطعام وإعطاء بعضه لأشعب تحت طائلة المداعبة والتشجيع على التفاعل مع الحوار. في النهاية، حصل على نصيبه من الطعام، وإن كانت القصة في ظاهرها مجرد نكتة، فإنَّها تشير إلى مهارة أشعب في استخدام الحوار والمواقف لإرضاء رغباته دون أن يُحسَب عليه ذلك.
حكم أشعب وطريقة حياته
كان أشعب ليس فقط طفيليًا ماهرًا، بل كان أيضًا يحمل مجموعة من الأقوال والحكم التي تم تداولها عن لسانه في مجالسه. كان يملك القدرة على إلقاء النكات التي تجمع بين الطرافة والحكمة، بحيث يمكن لأي شخص في مجلسه أن يستمتع بالكلمات التي يطلقها أشعب بينما يحمل بعضها رسائل عميقة.
من بين الحكم التي نسبت إلى أشعب قوله: “من لا يعيش بين الناس لا يعلم كيف تكون الحياة، ومن لا يستمع إلى حديث الناس لا يدرك كيف يعيش”. كان هذا القول جزءًا من فهم أشعب العميق للطبيعة البشرية وكيفية التعامل مع المجتمعات. فقد كان يرى أن الإنسان الذي يعيش في عزلة لا يعرف كيف يتنقل بين الأوساط الاجتماعية المختلفة ويستفيد منها، ولذلك كان يحرص دائمًا على المشاركة في مجالس الناس.
أشعب في عيون الخليفة
لم يكن أشعب مجرد شخصية فكاهية في المجتمع الأموي، بل كان له تفاعلات مع كبار القادة والخلفاء. في أحد المواقف الشهيرة، دخل أشعب ذات مرة على الخليفة هارون الرشيد في مجلسه، وأراد أن يُظهر له ذكاءه وخفة ظله. فقال له الخليفة: “يا أشعب، هل أنت جاهز للحديث عن موضوع جاد؟” أجاب أشعب بدهاء: “أنا دائماً جاهز، ولكنني أميل إلى المواضيع التي تكون خفيفة على المعدة، مثل حديث الطعام”. ضحك الخليفة قائلاً: “وماذا عنك، هل تعتبر نفسك مستحقًا لما في هذا المجلس من طعام؟” فرد أشعب: “من لا يستحق الطعام، لا يستحق الحديث عن الحياة”.
كان أشعب يلعب بالكلمات ويستفيد من المواقف الاجتماعية ليصل إلى أهدافه بطرق غير مباشرة، وهذا جعل له مكانة في قلوب الكثيرين من الناس، حيث لا يُحكم عليه كمجرد طفيلي، بل كأحد العارفين بظروف الحياة.
الأسطورة والواقع
تظل شخصية أشعب محطًا للكثير من الاهتمام في الأدب العربي، إذ تجسدت في مواقفه الطريفة حكمة عميقة عن الحياة في مجتمع كانت فيه الطبقات الاجتماعية واضحة، وكانت فرص الحصول على الطعام والمكانة الاجتماعية من الأمور التي يتنافس عليها الجميع. ومع ذلك، فإنَّ أشعب استطاع أن يحوّل التنافس إلى لعبة من خلال ذكائه وحيلته. لم يكن أشعب فقط يُضحك الناس بحركاته، بل كان يعكس مواقف معقدة بشأن الطبقات الاجتماعية والتطلعات الفردية في مجتمع كان يكثر فيه التفاوت الطبقي.
ورغم أن أغلب القصص التي تدور حول أشعب تتعلق بكيفية استفادته من الفرص بشكل فكاهي، فإنَّ العديد من هذه القصص تحمل معانٍ أعمق، تدور حول طموحات الإنسان ورغباته في الحصول على نصيبه من الحياة. ومن خلال هذه المواقف، يمكننا أن نرى كيف أنَّ أشعب كان شخصية تجمع بين البراءة والتكتيك، بين الطرافة والدهاء، بين السخرية والحكمة.
خلاصة
قصة أشعب بن جبير ليست مجرد حكايات فكاهية أُدرجت في كتب الأدب العربي لتسلية القُرّاء، بل هي تجسيد لفهم عميق للمجتمع العربي في العصور الإسلامية الأولى، حيث تتداخل الطبقات الاجتماعية والصراعات الشخصية في إطار من الفكاهة والذكاء. إنَّ أشعب شخصية تاريخية تجمع بين الطرافة والدهاء، ومن خلال نوادره وأقواله، استطاع أن يترك بصمة في الأدب العربي جعلته واحدًا من أشهر الشخصيات في تراثنا الثقافي.
