نشأة الماتريدية: تاريخها وأسسها الفكرية

تُعتبر الماتريدية واحدة من أهم المذاهب العقائدية في التراث الإسلامي، والتي لعبت دورًا بارزًا في تشكيل الفكر الإسلامي، لا سيما في مجال العقيدة والكلام. تأسست هذه المدرسة على يد الإمام أبو منصور الماتريدي، الذي ينتمي إلى قرية ماتريد الواقعة في خراسان، وهي المنطقة التي تشتهر بإسهاماتها الفكرية والعلمية الواسعة خلال العصور الإسلامية الوسطى. لقد شكلت الماتريدية منطلقًا فكريًا مهمًا في الرد على الفرق الضالة والتطرف العقائدي، كما كانت جسراً وسطياً يجمع بين التوازن العقلي والمنهج الشرعي.

خلفية تاريخية نشأة الماتريدية

برزت الماتريدية في القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي) في ظل بيئة إسلامية متوترة تشهد صراعات فكرية وعقائدية بين الفرق الإسلامية المختلفة، خصوصًا بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة. كان الخلفاء العباسيون في تلك الفترة يعنون بالشؤون الفكرية والسياسية، إذ شهدت الساحة الإسلامية انقسامًا عقائديًا حادًا في مسائل الإيمان، القدر، صفات الله، وحكمة التشريع.

نشأ أبو منصور الماتريدي في هذه البيئة التي تطلبت موقفًا عقليًا متوازنًا يدمج بين النصوص الشرعية وفهم العقل، فكانت الماتريدية ردًا علميًا من أهل السنة على الأفكار المعتزلية التي سادت آنذاك. اعتمد الماتريدية على النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، مع استنارة بالعقل والتدبر، لكنهم رفضوا الغلو أو التجاوز في الاعتماد على العقل فقط كما فعل المعتزلة، كما رفضوا الجمود الأعمى على النصوص دون فهم منطقي.

شخصية الإمام أبو منصور الماتريدي وأثره

يُعد أبو منصور الماتريدي (ماتريد نسبةً إلى مسقط رأسه) من أبرز علماء العقيدة في التاريخ الإسلامي. ولد حوالي عام 260 هـ (873م) وتوفي حوالي 333 هـ (944م)، وهو عالم فقيه ومحدث وعالم في أصول الدين. كان إمامًا في علوم الكلام وترك تراثًا غنيًا من المؤلفات التي أوضح فيها منهجه العقلي والشرعي.

تميز الماتريدي بأسلوبه المتوازن الذي جمع بين النصوص العقلية والنصوص الشرعية، وهو ما جعله يحظى بمكانة كبيرة بين أتباع أهل السنة، خاصة في مناطق آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر، حيث انتشرت مذهبه بشكل واسع حتى أصبح هو المذهب السائد في تلك المناطق، كما تبنته الدولة السامانية.

المبادئ الأساسية للماتريدية

1. التوحيد والإيمان

ركزت الماتريدية على توضيح مفهوم التوحيد بشكل علمي ومنهجي. قالوا بأن الإيمان هو العلم اليقيني بالله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو يدخل فيه التصديق بالقلب، والقبول بالجوارح. وقد انتقدوا مفهوم الإيمان عند المعتزلة الذي كان يرتبط بالأعمال فقط، إذ جعلوا الإيمان أكثر شمولية تجمع بين العقيدة الصحيحة والعمل الصالح.

2. دور العقل في فهم الدين

اعتبرت الماتريدية أن العقل أداة ضرورية لفهم النصوص الدينية وتفسيرها، مع التأكيد على أن العقل لا يتعارض مع النص الشرعي بل يكمله. استعملوا العقل في إثبات صفات الله من غير تمثيل أو تعطيل، فثبتوا صفات الله وفقًا لما ورد في الكتاب والسنة لكن مع فهمها بشكل يليق بجلال الله وعظمته دون التشبيه أو التجسيم.

3. الصفات الإلهية

رفض الماتريدية التشبيه والتجسيم، وقالوا بوجود الصفات الإلهية مثل السمع والبصر والكلام، لكن هذه الصفات ليست كصفات المخلوقين، إذ هي من طبيعة الله الخاصة التي لا تشبه صفات الخلق، وقالوا أن إثبات الصفات يجب أن يكون مجملًا مع الالتزام بالقول بـ “كيف” من غير تكييف أو تمثيل.

4. القضاء والقدر

آمن الماتريدية بالقضاء والقدر مع جمعهم بين حرية الإرادة عند الإنسان وقدرة الله سبحانه وتعالى، فهم يرون أن الله قد خلق الأفعال كلها، لكن الإنسان يمتلك إرادة حرة في اختيار أفعاله، وهي وجهة وسط بين القدرية والجبرية.

5. التعامل مع النصوص الشرعية

اتسم منهج الماتريدية بالتوسط في التعامل مع النصوص، فهم يؤمنون بأن النصوص التي تتعلق بالله وصفاته يجب تفسيرها بغير تعطيل ولا تأويل بعيد، والتمسك بالنصوص مع فهمها من منظور عقلاني منطقي.

الماتريدية في مواجهة الفرق الأخرى

نشأت الماتريدية في سياق مواجهة مباشرة مع فرق أخرى مثل المعتزلة، الذين أفرطوا في الاعتماد على العقل حتى أباحوا تأويل النصوص بطريقة لا توافق الشريعة، وكذلك ردت على الخوارج الذين تطرّفوا في أحكامهم وابتعدوا عن وسطية الإسلام.

كانت الماتريدية تمثل تيار أهل السنة المعتدل الذي يوازن بين العقل والنقل، فتأصل هذا المذهب في قلوب علماء الدين وطلبة العلم، وانتشر في مناطق واسعة مثل آسيا الوسطى، بلاد ما وراء النهر، وأجزاء من تركيا وأفغانستان، وأثرى التراث الإسلامي بفكر عقلاني معتدل بعيد عن الغلو والتشدد.

الماتريدية وتأثيرها عبر العصور

عبر التاريخ، ظل الماتريدية من التيارات العقائدية الأساسية التي تدعمها الدولة والفكر الديني، إذ تبنتها الدولة السامانية التي كانت تمثل مركزًا حضاريًا هامًا في شرق العالم الإسلامي. كما ساهمت الماتريدية في تكوين فهم أهل السنة في تلك المناطق، وكانت سببًا في انتشار الاعتدال والوسطية، وهو ما أدى إلى ثبات واستقرار ديني وثقافي.

إضافة إلى ذلك، أثرت الماتريدية في تطور علوم الكلام والعقيدة، وظهرت على يد أتباعها مؤلفات ومؤسسات علمية جعلت هذا المذهب جزءًا لا يتجزأ من بنية الفكر الإسلامي، وما زال العلماء في العصر الحديث يستفيدون من تراثها في تفسير القضايا العقائدية المعقدة، كما يدرسونها ضمن مناهج العلوم الإسلامية في الكثير من الدول الإسلامية.

مقارنة بين الماتريدية وأهل السنة الأخرى

بالرغم من كون الماتريدية جزءًا من أهل السنة والجماعة، إلا أن لها خصوصيات في طريقة التعامل مع بعض المسائل العقائدية، لا سيما في توظيف العقل. ففي حين أن الأشاعرة قد اعتمدوا على منهج أكثر فقهية في تفسير النصوص، والمداومة على استعمال البرهان العقلي بطريقة مختلفة، فإن الماتريدية أبرزت دور العقل بوضوح أكبر مع الحفاظ على النص الشرعي.

أيضًا، تختلف الماتريدية في تفسير صفات الله وموقفها من القضاء والقدر عن غيرها من المذاهب، مما يجعلها تمثل وسطًا علميًا وعقائديًا متوازنًا، يمكن اعتباره حلقة وصل بين التيارات الفلسفية والفقهية.

أهم مؤلفات الإمام الماتريدي

ترك الإمام أبو منصور الماتريدي مؤلفات عديدة في العقيدة، منها:

• “التوحيد” وهو أشهر كتبه، حيث تناول فيه أصول العقيدة الإسلامية بشكل مفصل، مؤكدًا على التوازن بين العقل والنقل.

• “شرح العقيدة” الذي يعد شرحًا موسعًا على أصول التوحيد مع شرح بعض القضايا التي أثارت الجدل آنذاك.

كما تم جمع وتدوين أقوال الماتريدية وأشعارهم على يد تلاميذهم ومن تبعهم من العلماء، مما ساهم في الحفاظ على تراثهم وتعزيزه.

جدول مقارنة بين بعض المواقف العقائدية عند الماتريدية والمعتزلة والأشاعرة

خلاصة

شكلت الماتريدية نقلة نوعية في التاريخ العقائدي الإسلامي، فهي مدرسة وسطيّة عقلانية جعلت من العقل والنقل منهجًا متكاملاً في فهم الدين، مبتعدة عن الغلو والتشدد، كما أنها ساهمت في تأسيس بيئة فكرية راقية انعكست على استقرار المجتمع الإسلامي وازدهار العلوم الإسلامية. تمثل هذه المدرسة ركناً مهماً في تاريخ الفكر الإسلامي، وما زالت أفكارها ومبادئها تدرس وتناقش حتى يومنا هذا في سياقات علمية وعقائدية متعددة.

المصادر والمراجع:

1. الإمام أبو منصور الماتريدي، “التوحيد”، دار الكتب العلمية، بيروت.

2. يوسف القرضاوي، “مدخل إلى علم العقيدة الإسلامية”، دار الشروق، القاهرة.