مثال يثبت أننا نجهل أطفالنا: قراءة متأنية في فجوة الفهم والتواصل داخل الأسرة

في كثير من البيوت العربية، بل وفي مختلف المجتمعات حول العالم، يُفترض ضمنياً أن الوالدين يعرفون كل شيء عن أطفالهم: مشاعرهم، تطلعاتهم، مخاوفهم، وطباعهم. غير أن هذا الاعتقاد كثيراً ما يتهاوى عند أول اختبار واقعي، حين تتجلى فجوة هائلة بين تصورات الآباء حول أطفالهم وما يعيشه هؤلاء في واقعهم الداخلي والخارجي. إننا نجهل أطفالنا فعلياً، ليس لغياب الحب أو الإهمال، بل لأننا نتعامل مع الظاهر ونغفل ما يعتمل في العمق.

حادثة بسيطة تكشف جهلاً عميقاً

في إحدى المدارس، طلبت المعلمة من التلاميذ أن يرسموا شيئاً يمثل “عائلتهم”. أحد الأطفال، واسمه زيد (اسم مستعار)، رسم بيتاً صغيراً بلا نوافذ، وفي داخله جلسة من ثلاثة أشخاص، كل منهم يحمل هاتفاً محمولاً، بينما جلس طفل صغير في زاوية الغرفة ينظر إلى الأرض. وعندما سُئل عن الرسم، قال ببساطة: “هذا أنا، وأنا لوحدي حتى لو كانوا معي”.

عند استدعاء الوالدين لمناقشة الرسم، تفاجآ جداً، وأكدا أن ابنهما لا يعاني من الوحدة وأنه يحصل على كل ما يحتاجه. لكن الحقيقة أن الطفل لم يكن يفتقر إلى الطعام أو الملابس أو الألعاب، بل كان يعاني من نقص حاد في الانتباه والاحتواء والإنصات. لقد عبّر عن شعور دفين من العزلة النفسية ضمن محيطه الأسري، وعبّر عنه بطريقته الوحيدة المتاحة: الرسم.

قراءة معمقة في السياق النفسي للأطفال

الطفل كائن عاطفي، يتفاعل مع محيطه بحساسية شديدة ويفسر السلوكيات والأحداث وفق رؤيته الخاصة، وليس بالضرورة وفق ما يعتقده أو يقصده البالغون. فعندما ينهال أحد الوالدين عليه بالنصائح المستمرة دون سماع وجهة نظره، يشعر الطفل بأنه غير مرئي. وعندما يُمنع من التعبير عن مشاعره “السلبية” كالحزن أو الغضب بحجة أنه يجب أن يكون “قوياً” أو “مؤدباً”، يتعلم الطفل قمع ذاته الحقيقية والتظاهر بما يُرضي الكبار فقط.

وهنا تكمن بداية الجهل العاطفي بأطفالنا: نحن نعرفهم من خلال درجاتهم المدرسية، سلوكهم في العلن، طعامهم المفضل، وربما عدد ساعات نومهم. لكننا نجهل أفكارهم، أحلامهم، قلقهم، رغبتهم في أن يُسمَعوا لا فقط أن يُوجَّهوا.

غياب الحوار الفعّال داخل الأسرة

إن من أبرز المؤشرات على جهل الأهل بأطفالهم هو غياب الحوار الحقيقي والمنتظم. فالتواصل العائلي في الكثير من البيوت يقتصر على تعليمات يومية: “ارتدِ ملابسك”، “افعل واجبك”، “كُل بسرعة”، دون التوقف لسماع ما يشعر به الطفل أو ما يفكر فيه.

وقد كشفت دراسة نُشرت في المجلة الأميركية لعلم النفس العائلي أن الأطفال الذين يحظون بفرص حوار أسبوعية عميقة مع والديهم يتمتعون بصحة نفسية أفضل بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بأقرانهم الذين يفتقدون هذا النمط من التواصل. إن الحوار ليس ترفاً بل ضرورة بنائية لنفسية الطفل وهويته.

الفجوة الرقمية وتفاقم الجهل العائلي

مع الانتشار الهائل للتكنولوجيا، دخل عنصر جديد إلى المعادلة: الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي. أصبح كل فرد في الأسرة، بمن فيهم الأطفال، يعيش في فقاعته الرقمية الخاصة. فحتى عندما تجتمع الأسرة جسدياً، تغيب الروابط الحقيقية لأن كل فرد منشغل بعالمه الافتراضي.

هذه العزلة الرقمية عمقت جهل الآباء بأطفالهم. فقد لا يعلم الوالد أن طفله يتعرض للتنمر الإلكتروني، أو أنه يتابع محتوى لا يتناسب مع عمره، أو أنه يواجه ضغطاً نفسياً شديداً من تطبيقات تقارن المظهر والأداء. إننا نُفاجأ عندما ينهار الطفل، لأننا ببساطة لم نكن حاضرين بشكل حقيقي في يومياته الرقمية والعاطفية.

المظاهر لا تعكس العمق

يخطئ الكثير من الأهل حين يظنون أن الطفل الناجح دراسياً أو المؤدب سلوكياً هو بالضرورة طفل سعيد أو متوازن نفسياً. فقد تُخفي السلوكيات المنضبطة رغبة في نيل رضا الكبار بأي ثمن، أو خشية من العقاب، أو حتى شعوراً داخلياً بانعدام القيمة الذاتية.

وقد أثبتت دراسات نفسية أن عدداً غير قليل من الأطفال الذين يُظهرون التزاماً كبيراً هم في الواقع يعيشون ضغطاً داخلياً شديداً، ويتعاملون مع مشاعرهم بطرق غير صحية كالكتمان أو الانفجار في لحظات غير متوقعة. إننا نجهل أطفالنا عندما نربط حالتهم النفسية بسلوكهم الظاهري فقط، متجاهلين المؤشرات الخفية للضيق النفسي.

المدرسة كمؤشر على الفجوة العائلية

المدرسة هي بيئة كاشفة للطبيعة النفسية والاجتماعية للطفل. وغالباً ما تكون هي المكان الأول الذي تظهر فيه علامات اضطراب أو ضيق يعاني منه الطفل في البيت. سلوكيات مثل الانطواء، العدوانية، الكذب المتكرر، أو التراجع المفاجئ في المستوى الدراسي، كلها إشارات إلى اختلال ما في الحياة العاطفية للطفل.

غير أن المفارقة أن العديد من الأهل عندما يُنبهون إلى هذه الإشارات يرفضون تصديقها أو يتهمون المدرسة بالمبالغة. وذلك لأنهم لم يلاحظوا أي تغير في البيت، ما يعكس مجدداً غياب الرصد الدقيق والدائم لحالة الطفل النفسية.

جدول يوضح الفجوة بين تصورات الأهل وواقع الطفل

طرق تصحيح هذا الجهل التربوي

إن الاعتراف بجهلنا بأطفالنا هو الخطوة الأولى نحو فهمهم حقاً. ويتطلب ذلك تغييرات حقيقية في بنية التواصل والاحتواء داخل الأسرة:

• الإنصات اليومي: تخصيص وقت يومي للحديث مع الطفل دون مقاطعة أو إصدار أحكام.

• التواجد العاطفي: أن نكون حاضرين فعلاً لا شكلاً، بعيداً عن الهاتف أو الانشغالات.

• تقديم الدعم قبل النصيحة: الطفل لا يحتاج دائماً إلى حل، بل إلى من يسمعه ويتعاطف معه.

• تعليم الطفل التعبير: تشجيعه على الحديث عن مشاعره دون خوف من اللوم أو التقليل.

• استخدام الفن واللعب كأدوات كشف: الرسم، التمثيل، والقصص وسيلة لفهم عالم الطفل الداخلي.

أهمية التقييم النفسي الدوري

لا يكفي الاعتماد على الملاحظة المنزلية لتقييم الحالة النفسية للأطفال. بل يوصى بإجراء جلسات نفسية دورية، حتى لو لم تظهر مشاكل واضحة. هذه الجلسات تساعد في الكشف المبكر عن حالات الاكتئاب، القلق، أو صعوبات التعلم، وتوفر للأهل أدوات فعالة للفهم والتعامل.

الاستنتاج

مثال الطفل الذي رسم نفسه وحيداً وسط أسرته كفيل بإسقاط أقنعة وهم المعرفة التي نتمسك بها كآباء. إننا نجهل أطفالنا حين نعتبر أن توفير الاحتياجات المادية كافٍ، وحين نخلط بين الطاعة والتوازن، وبين الهدوء والسلام النفسي. إن إصلاح هذا الجهل لا يتم إلا بالوعي، بالحب العميق النشط، وبالحضور اليومي في عوالم أطفالنا النفسية والعاطفية.

المراجع:

• American Psychological Association. (2020). The Importance of Parental Engagement in Children’s Mental Health.

• Siegel, D. J., & Bryson, T. P.