مواقع التواصل الاجتماعي العربية: التحولات الرقمية وتحديات الهوية الثقافية
في العقود القليلة الماضية، شهد العالم نقلة نوعية في مجال التكنولوجيا الرقمية، وكان من أبرز تجلياتها صعود مواقع التواصل الاجتماعي كوسائل مركزية للتفاعل والتأثير وتبادل المعلومات. في السياق العربي، مثلت هذه المواقع تحولاً جذرياً في بنية الاتصال المجتمعي والسياسي والثقافي، حيث باتت تلعب دورًا لا يمكن تجاوزه في تشكيل الرأي العام، وتوجيه النقاشات، وبناء الحركات الاجتماعية، وتسهيل المبادرات التجارية والتعليمية والثقافية. لا يمكن تناول مواقع التواصل الاجتماعي العربية دون الإشارة إلى بيئاتها الاجتماعية والسياسية المختلفة، وتفاعلها مع التقاليد والهويات المحلية، والكيفية التي تم بها تطويع هذه المنصات لتخدم أغراضًا تتعدى ما خُصصت له أساسًا.
النشأة والتطور التقني
لم تبدأ مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي من فراغ، بل جاءت نتيجة لتقاطع عوامل تقنية واقتصادية وديمغرافية. مع انتشار الإنترنت في الدول العربية، وازدياد نسب الشباب في المجتمعات العربية – وهي الفئة الأكثر تفاعلًا مع الوسائط الرقمية – بدأ الاهتمام يتزايد بمنصات التواصل، بدءًا من استخدام المنتديات والبريد الإلكتروني في أواخر التسعينيات، وصولاً إلى الولوج في عوالم “فيسبوك”، و”تويتر”، و”يوتيوب”، و”انستغرام”، و”سناب شات”، ثم لاحقًا “تيك توك” و”كلوب هاوس”.
غير أن اللافت للنظر في السياق العربي هو ظهور منصات محلية أو مخصصة للسوق العربي، بعضها حاول منافسة المنصات العالمية، وبعضها الآخر اتخذ طابعًا متخصصًا أو دينيًا أو ثقافيًا، وإن لم تستطع أغلب هذه المنصات الصمود في وجه عمالقة التكنولوجيا العالمية، فإنها تعكس دلالة واضحة على الوعي بأهمية الفضاء الرقمي كأداة سيادية وثقافية.
الخصوصية الثقافية واللغوية
تمتلك المجتمعات العربية تنوعًا ثقافيًا ولغويًا غنيًا، ما يجعل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي فيها مرتبطًا بمحددات الهوية والانتماء. اللغة العربية، بكل لهجاتها المحلية، أصبحت واحدة من اللغات الأكثر استخدامًا على الإنترنت، وشهدت محتويات المنصات تحولاً ملحوظًا نحو التفاعل بالعامية، مما سهل الوصول الشعبي للمحتوى، وأتاح التعبير عن الذات بمرونة، لكنه أيضًا طرح إشكالات تتعلق بالتهميش الثقافي للفصحى، وتراجع اللغة الأكاديمية في الفضاء الرقمي.
من جهة أخرى، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في إعادة إنتاج وإعادة تعريف بعض المفاهيم الاجتماعية، مثل “العيب” و”الحرية” و”الهوية”، حيث أصبحت هذه المفاهيم تُناقش علنًا بعد أن كانت حكرًا على الأطر المغلقة. كما أصبحت المنصات ساحة لتداول الإنتاج الثقافي، من الأدب والفن والسينما إلى الموسيقى والتراث الشعبي، مما أسهم في تعزيز الهويات المحلية وتدويلها في بعض الحالات.
الدور السياسي والاجتماعي
أبرز ما لفت الانتباه إلى مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي هو دورها في التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة منذ عام 2011، والتي أطلق عليها “الربيع العربي”. في هذه الفترة، أصبحت مواقع مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب أدوات محورية في التعبئة، ونشر المعلومات، والتنظيم، بل وحتى في تشكيل الوعي الجمعي. وقد وصفت هذه المنصات بـ”السلطة الخامسة”، نظرًا لقدرتها على كسر احتكار الإعلام الرسمي للمعلومة وتوجيه الرأي العام.
لم يتوقف التأثير السياسي عند هذه اللحظة، بل استمر بشكل متطور، حيث باتت الحكومات العربية نفسها تعتمد على هذه المنصات لنشر قراراتها والتفاعل مع المواطنين، كما أن الأحزاب السياسية والمؤسسات المعارضة وجدت فيها مساحة للتواصل والنشاط. هذا الدور السياسي تداخل بدوره مع التحديات القانونية المتعلقة بحرية التعبير، والرقابة، وحماية الخصوصية، مما فتح بابًا واسعًا للنقاش حول الحقوق الرقمية في السياق العربي.
الاقتصاد الرقمي وصناعة المحتوى
مع الانتشار الواسع لمواقع التواصل، ظهرت صناعة جديدة تُعرف اليوم بـ”اقتصاد المؤثرين” أو “الاقتصاد الرقمي الاجتماعي”، حيث أصبح للأفراد والمؤسسات فرصة لتحقيق دخل عبر منصات مثل يوتيوب وإنستغرام وتيك توك. في العالم العربي، بدأت هذه الظاهرة بأشكال متواضعة، ثم تطورت بسرعة ليتحول العديد من المستخدمين إلى مؤثرين رقميين تتبعهم جماهير كبيرة، ويحققون أرباحًا من خلال الإعلانات، والشراكات التجارية، والتسويق للمنتجات.
وقد ساعدت البنية الشبابية للمجتمعات العربية، بالإضافة إلى تنامي الاعتماد على الإنترنت، في توسع هذه السوق. كما أسهمت المنصات في فتح فرص اقتصادية للأفراد المستقلين، وأصحاب الأعمال المنزلية، والفنانين، والمبتكرين، وغيرهم من الفئات التي كانت تفتقر إلى أدوات النشر والربح المباشر.
الجوانب السلبية والتحديات
رغم الفوائد العديدة لمواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنها لم تخلُ من سلبيات واضحة ومخاطر محدقة، خصوصًا في السياق العربي الذي يعاني من فجوات تعليمية وثقافية واقتصادية. من أبرز هذه السلبيات:
-
نشر المعلومات الكاذبة: تنتشر الشائعات والأخبار المزيفة على نطاق واسع، مما يهدد استقرار المجتمعات، ويؤثر سلبًا على الثقة بالمؤسسات.
-
الإدمان الرقمي: يعاني الكثير من الشباب من الاعتماد المفرط على المنصات، مما ينعكس سلبًا على الصحة النفسية والبدنية.
-
الابتزاز والتشهير: نتيجة ضعف القوانين أو غياب التوعية، تنتشر ظواهر مثل الابتزاز الإلكتروني والتشهير بالفئات الهشة، خاصة النساء.
-
الرقابة والتضييق: تواجه بعض الدول العربية تحديًا في التوازن بين الرقابة لضمان الأمن العام، والحفاظ على حرية التعبير، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى استخدام القوانين لقمع الأصوات المعارضة.
الفجوة الرقمية والعدالة المعلوماتية
رغم التوسع في استخدام الإنترنت ومواقع التواصل في العالم العربي، لا تزال الفجوة الرقمية واضحة، خصوصًا بين المدن والريف، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وبين الدول الغنية والفقيرة. وتظهر هذه الفجوة في ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المناطق، وارتفاع تكلفة الإنترنت، وانخفاض الوعي الرقمي. كما أن النساء والفئات المهمشة غالبًا ما يواجهن عراقيل إضافية في الوصول الآمن والمجدي إلى هذه المنصات، مما يعمّق من التفاوتات الاجتماعية.
التأثير على التعليم والتعلم
بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تتغلغل أيضًا في ميدان التعليم، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي. فعلى الصعيد الرسمي، استُخدمت بعض المنصات في تقديم الدروس والتواصل بين المعلمين والطلاب، خصوصًا خلال جائحة كوفيد-19. أما على المستوى غير الرسمي، فقد أصبحت مصادر لمشاركة المعرفة، ومراجعة الامتحانات، وتعلم المهارات الحياتية واللغات، وغيرها من المحتويات التعليمية التي يصنعها المستخدمون.
ومع ذلك، يبقى هذا الاستخدام محدودًا ويحتاج إلى تنظيم وتطوير، خصوصًا في ما يتعلق بتحديد جودة المحتوى ومصداقيته، وتأهيل المعلمين والطلاب لاستعمال هذه الأدوات بطريقة فعالة وآمنة.
الجداول الإحصائية لاستخدام مواقع التواصل العربية
يُوضح الجدول التالي نسب استخدام أبرز المنصات الاجتماعية في الدول العربية حسب تقارير “We Are Social” و”Statista” لعام 2024:
| الدولة | نسبة مستخدمي فيسبوك | نسبة مستخدمي إنستغرام | نسبة مستخدمي تيك توك | نسبة مستخدمي تويتر |
|---|---|---|---|---|
| السعودية | 73% | 67% | 59% | 47% |
| مصر | 82% | 63% | 42% | 28% |
| الإمارات | 88% | 81% | 61% | 49% |
| المغرب | 76% | 54% | 37% | 24% |
| الأردن | 70% | 62% | 44% | 35% |
| الجزائر | 67% | 46% | 29% | 19% |
تشير هذه الأرقام إلى تباينات واضحة في الاستخدام تعكس الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الدول، كما تعكس اختلاف الأهداف والدوافع لدى المستخدمين.
مستقبل مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي
تشير الاتجاهات المستقبلية إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي ستواصل التوسع والاندماج في الحياة اليومية للعرب، ولكن ضمن معايير جديدة. سيكون هناك مزيد من التركيز على المحتوى المحلي، وتكامل الذكاء الاصطناعي، وتطور أدوات الحماية والأمان، إضافة إلى تنظيم قانوني أكبر لحماية الخصوصية وضمان حرية التعبير. كما يُتوقع أن تنشأ مبادرات رقمية محلية تواكب هذه التحولات، وتدعم السيادة الرقمية للمجتمعات العربية.
المراجع
-
We Are Social & Hootsuite – Digital 2024 Global Overview Report
-
Statista – Social Media Usage in the MENA Region 2024
