مفهوم عتبة الفقر وأثرها

مفهوم عتبة الفقر: تحليل شامل

عتبة الفقر هي مصطلح اقتصادي واجتماعي يستخدم لتحديد الحد الأدنى من الدخل الذي يُعتبر غير كافٍ لتلبية احتياجات الفرد الأساسية مثل الغذاء، الملبس، المسكن، والرعاية الصحية. تعتبر عتبة الفقر مقياسًا مهمًا يستخدم في تحليل مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات والدول، وهو أداة أساسية للحكومات والمؤسسات الدولية لتحديد الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع وتوجيه سياسات الدعم والمساعدات.

1. نشأة مفهوم عتبة الفقر

نشأ مفهوم عتبة الفقر في سياق الدراسات الاقتصادية التي تهدف إلى فهم توزيع الدخل داخل المجتمعات. بدأ تطبيقه على نطاق واسع بعد أن اقترح الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان في خمسينيات القرن الماضي ضرورة وضع حد أدنى للحد الأدنى من دخل الأفراد في المجتمعات الصناعية. مع تطور الأبحاث الاقتصادية، تم تطوير هذا المفهوم ليتناسب مع الظروف الاقتصادية المتغيرة في مختلف البلدان.

أول من قام بوضع حد محدد للحد الأدنى من الفقر كان الاقتصادي الأمريكي جورج بوردن في عام 1963، حيث أشار إلى أن هذا الحد يجب أن يكون مبنيًا على تكلفة سلة من السلع الأساسية التي يحتاجها الإنسان. ومنذ ذلك الحين، تطورت الفكرة لتشمل جوانب عديدة، ليس فقط من حيث تكلفة المعيشة ولكن أيضًا من حيث الحقوق الاجتماعية والتقدم الاقتصادي.

2. تعريف عتبة الفقر

تتعدد تعريفات عتبة الفقر، لكن بشكل عام يُقصد بها الحد الأدنى من الدخل أو الموارد اللازمة لضمان حياة كريمة. يتفاوت تعريف هذه العتبة من دولة لأخرى بناءً على مستويات الأسعار المحلية، والمتطلبات الأساسية التي تختلف من مكان إلى آخر. يُحدد عادة من خلال معيارين رئيسيين: أولاً، مقياس الدخل الذي يعتبر تحت عتبة الفقر إذا كان لا يحقق الحد الأدنى المعيشي المطلوب. ثانيًا، يعتمد تحديد العتبة في بعض البلدان على مفهوم “سلة الاحتياجات الأساسية” التي تشمل الغذاء، الملبس، المأوى، والتعليم، والرعاية الصحية.

3. طرق قياس عتبة الفقر

يمكن قياس عتبة الفقر من خلال عدة طرق رئيسية، منها:

أ. العتبة الوطنية للحد الأدنى من الدخل (الدخل النسبي):

تعتمد هذه الطريقة على تحديد عتبة الفقر كجزء من متوسط الدخل الوطني. على سبيل المثال، في العديد من الدول الغربية، يُحدد أن الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 60% من متوسط الدخل القومي يُعتبرون فقراء.

ب. العتبة المطلقة:

هذه الطريقة تعتمد على تحديد الحد الأدنى من الدخل المطلوب لتغطية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والملابس والمأوى، وهذه العتبة لا تتغير بمرور الوقت بل تظل ثابتة أو تتغير ببطء بناءً على زيادة تكلفة المعيشة. تُستخدم هذه الطريقة بشكل رئيسي في الدول النامية.

ج. مقياس التكاليف الأساسية (سلة الاحتياجات):

يتم تحديد عتبة الفقر بناءً على تكلفة سلة من السلع والخدمات التي يحتاجها الأفراد يوميًا من أجل العيش بطريقة مستقرة، مثل الغذاء، الملبس، المسكن، والمواصلات.

4. العوامل المؤثرة في تحديد عتبة الفقر

أ. مستوى الأسعار:

تعتبر الأسعار في الأسواق من أهم العوامل المؤثرة في تحديد عتبة الفقر. في الدول ذات الأسعار المرتفعة، ستصبح عتبة الفقر أعلى لأنها تعكس الحاجة لتغطية التكاليف المعيشية.

ب. السياسة الحكومية:

تلعب الحكومة دورًا مهمًا في تحديد معايير عتبة الفقر من خلال تحديد السياسات الاجتماعية والاقتصادية. في بعض الدول، يتم تحديد العتبة من خلال الدعم الحكومي المباشر مثل برامج المساعدة المالية أو الدعم الغذائي.

ج. الدخل الفردي والعائلي:

تعتبر معدلات الدخل الفردي والعائلي من العوامل الأساسية في تحديد مستوى الفقر. الأشخاص الذين يحصلون على دخل أقل من العتبة المحددة يُعتبرون فقراء.

د. النمو الاقتصادي:

النمو الاقتصادي للبلد يؤثر في تحديد مستويات الفقر. ففي فترة النمو الاقتصادي المرتفع، قد تنخفض معدلات الفقر، بينما في الأوقات التي تشهد فيها الدولة ركودًا اقتصاديًا، قد ترتفع مستويات الفقر.

5. عتبة الفقر في مختلف البلدان

يختلف تحديد عتبة الفقر من دولة إلى أخرى بناءً على مستوى التنمية الاقتصادية، ونوعية الحياة، والمتطلبات الأساسية التي تختلف من منطقة إلى أخرى.

في الولايات المتحدة الأمريكية، تُحدد عتبة الفقر بشكل سنوي من قبل وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بناءً على حجم الأسرة والدخل. على سبيل المثال، في عام 2023، كانت عتبة الفقر لعائلة مكونة من شخصين هي 19,720 دولارًا سنويًا.

أما في الدول الأوروبية، فقد تم استخدام معيار الدخل النسبي لقياس الفقر. يُعتبر الشخص فقيرًا إذا كان دخله أقل من 60% من متوسط الدخل في بلده. كما أن هناك دولًا مثل فرنسا وألمانيا تعتمد على مزيج من الدخل الفردي وسلة الاحتياجات لتحديد عتبة الفقر.

في الدول النامية، يعتمد تحديد عتبة الفقر بشكل كبير على المستوى الاقتصادي المحلي، وقد يتضمن عناصر أساسية مثل الغذاء والمأوى والرعاية الصحية.

6. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لوجود عتبة الفقر

أ. التأثير الاقتصادي:

وجود فئات واسعة من المجتمع تعيش تحت عتبة الفقر يساهم في زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. هذه الفجوة قد تؤدي إلى انخفاض معدلات الاستثمار في المجتمع، حيث يشعر الأفراد في الطبقات الفقيرة بعدم القدرة على استثمار دخلهم في تحسين ظروفهم المعيشية. كما أن تزايد نسبة الفقر قد يعيق النمو الاقتصادي العام للدولة.

ب. التأثير الاجتماعي:

على الصعيد الاجتماعي، يؤدي انخفاض مستوى المعيشة إلى تفشي العديد من المشاكل مثل نقص التعليم، والصحة السيئة، وزيادة معدلات الجريمة. يخلق الفقر بيئة خصبة للعديد من الظواهر الاجتماعية السلبية مثل البطالة والفقر المدقع والعنف الاجتماعي.

7. الحلول والسياسات لمكافحة الفقر

لمكافحة الفقر وتحقيق تحسينات في حياة الفقراء، قامت العديد من الدول باتباع سياسات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى رفع مستويات المعيشة. تشمل هذه السياسات:

• توسيع شبكات الأمان الاجتماعي: مثل برامج الدعم النقدي للمحتاجين، توزيع المواد الغذائية، والرعاية الصحية المجانية أو المدعومة.

• تعليم وتدريب الفقراء: عن طريق توفير برامج تعليمية وتدريب مهني تساعد الأفراد على الحصول على وظائف أفضل وتحسين دخلهم.

• تحفيز الاقتصاد: من خلال استثمارات حكومية في البنية التحتية، وتحفيز الشركات على خلق فرص عمل جديدة.

8. دور المنظمات الدولية في التصدي للفقر

تلعب المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي دورًا حيويًا في تحديد استراتيجيات مكافحة الفقر. ومن خلال التقارير السنوية التي تصدرها، تقدم هذه المنظمات بيانات شاملة حول مستويات الفقر في مختلف الدول وتوصي بتطبيق سياسات لتقليل الفقر وتعزيز الرفاه الاجتماعي.

9. التحديات المستقبلية

رغم الجهود المستمرة لمكافحة الفقر، فإن التحديات لا تزال قائمة. في ظل الأزمات الاقتصادية والبيئية العالمية مثل تغير المناخ، يواجه العديد من البلدان صعوبة في تحسين مستويات المعيشة للفئات الأكثر فقراً. من المهم أن تواصل الحكومات والمنظمات الدولية تطوير حلول مبتكرة للتعامل مع هذه الظواهر العالمية.

10. الخاتمة

مفهوم عتبة الفقر هو أداة هامة لفهم قضايا الفقر والتمييز بين الأفراد الذين يواجهون صعوبات اقتصادية. يظل تحديد هذه العتبة أمرًا حيويًا لتحسين السياسات الاجتماعية والاقتصادية، حيث يساعد في تحسين حياة الفقراء ويسهم في الحد من الفجوة الاجتماعية.