القومية: مفهومها، جذورها التاريخية، أنواعها، وتطورها في السياق المعاصر

تمثل القومية أحد أكثر المفاهيم السياسية والاجتماعية تأثيرًا في تشكيل المجتمعات الحديثة. فهي ليست مجرد فكرة أو نظرية، بل هي حالة نفسية جماعية، وشعور بالانتماء والتماهي مع مجموعة بشرية تتقاسم سمات ثقافية وتاريخية وجغرافية معينة. تطورت القومية عبر العصور وتلونت بصبغات متعددة، حتى باتت اليوم محورًا لفهم العلاقات الدولية وتوازنات القوى، كما أصبحت جزءًا من النقاشات الكبرى حول الهوية والسيادة والتنمية.

تعريف القومية

القومية هي الإحساس بالانتماء إلى أمة، وتُعبّر عن ذلك الانتماء من خلال الولاء لها، والدفاع عن مصالحها، والاعتقاد بحقها في تقرير مصيرها. الأمة هنا ليست فقط تجمعًا بشريًا يعيش في إقليم جغرافي محدد، بل هي كيان معنوي يحمل سمات مشتركة كالثقافة، اللغة، الدين، التاريخ، والتقاليد.

يمكن أن تُفهم القومية على أنها إيديولوجيا سياسية تدعو إلى إنشاء دولة مستقلة ذات سيادة تمثل مصالح “الأمة” المعنية. كما يمكن اعتبارها حركة اجتماعية تهدف إلى توحيد الأفراد تحت راية واحدة تربطهم ثقافيًا وتاريخيًا.

الجذور التاريخية للقومية

القومية بوصفها مفهومًا سياسيًا حديثًا تعود نشأتها إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وخاصة مع بداية تشكُّل الدول القومية في أوروبا الغربية، كفرنسا وإنجلترا. لكن يمكن تتبع جذورها إلى أبعد من ذلك، إلى العصور القديمة، حينما كانت الهويات الجماعية تتشكل حول القبائل، أو المدن-الدول، أو الإمبراطوريات.

مع الثورة الفرنسية (1789)، حدث تحول نوعي في فهم القومية، إذ برزت لأول مرة كقوة شعبية تُضفي الشرعية على الحكم. لم تعد السلطة تُمثل “الملك المُختار من الإله”، بل أصبحت تمثل “الشعب” صاحب السيادة. وبهذا أصبحت القومية مرتبطة بمفاهيم الديمقراطية والتمثيل السياسي.

في القرن التاسع عشر، انتشرت القومية في أوروبا انتشارًا واسعًا، ورافقتها حركات توحيد مثل توحيد ألمانيا وإيطاليا، وكذلك حركات تحرر وطني في شرق أوروبا. في الوقت ذاته، كانت القومية تستُخدم كأداة استعمارية لتبرير الغزو والسيطرة على الشعوب الأخرى.

عناصر القومية

تتشكل القومية من مجموعة عناصر متداخلة تُضفي على الأمة طابعًا خاصًا، وهي:

• اللغة: تُعتبر من أقوى روابط الانتماء القومي، فهي الوسيلة التي يُعبر بها الشعب عن ثقافته وتاريخه.

• الثقافة: تشمل الممارسات اليومية، والفنون، والعادات، والتقاليد.

• التاريخ المشترك: يوفر سردية قومية تتحدث عن ماضٍ مجيد أو معاناة مشتركة تُعزز الوحدة.

• الدين: في بعض السياقات، يشكّل الدين رابطًا قوميًّا قويًا، كما في القومية الإسلامية أو المسيحية.

• الإقليم الجغرافي: يشكّل الحيز الذي تتجلى فيه مظاهر القومية، وتُعبر فيه عن السيادة.

أنواع القومية

لقد تعددت أشكال القومية عبر الزمن والمكان، ويمكن تصنيفها إلى عدة أنواع رئيسية:

القومية الثقافية

تقوم على أساس التشابه الثقافي واللغوي، وتعتبر أن الأمة تتكون من أفراد يتشاركون القيم الثقافية ذاتها. وغالبًا ما تتسم هذه القومية بطابع إثني، حيث تعتبر الأصل العرقي عنصرًا مكونًا لهوية الأمة.

القومية المدنية (السياسية)

تقوم على مبدأ المواطنة والقانون، لا على العرق أو اللغة أو الدين. وتُعد النموذج الفرنسي أبرز مثال على هذا النوع، حيث يكون الانتماء للدولة نتيجة للقبول بالمبادئ الجمهورية كالمساواة، والحرية، والعلمانية.

القومية العرقية

تقوم على العرق كسمة أساسية للانتماء، وتُقصي من لا ينتمي إلى هذا العرق من دائرة الأمة. وغالبًا ما تكون هذه القومية محفوفة بالمخاطر، حيث تؤدي إلى العنصرية والصراعات العرقية.

القومية التحررية

تتمثل في الحركات التي تسعى لتحرير شعب خاضع للاحتلال أو التمييز من أجل تأسيس دولة مستقلة تمثل هويته. ومن أمثلتها القومية الفلسطينية، والقومية الهندية ضد الاستعمار البريطاني.

القومية العدوانية أو التوسعية

تُستخدم أداة للتوسع والهيمنة، كما حدث مع القومية الألمانية خلال الحكم النازي، حيث تحوّلت إلى أداة أيديولوجية لتبرير الغزو والحروب.

القومية والدولة القومية

يُعد تشكّل الدولة القومية من أبرز نتائج تصاعد النزعة القومية. الدولة القومية هي الدولة التي تتطابق فيها حدود الأمة مع حدود الدولة السياسية، حيث تُمثل الحكومة أداة لتجسيد الإرادة القومية. وقد كان هذا النموذج هو النموذج السائد في العالم منذ القرن التاسع عشر، خاصة بعد مؤتمر فيينا (1815) وحروب توحيد أوروبا.

إلا أن هذا النموذج لم يكن ممكنًا دائمًا، فكثير من الدول الحديثة تضم في داخلها عددًا من القوميات المختلفة، مما يُنتج مشكلات متعلقة بالهوية، والاندماج، والولاء السياسي، والانفصال.

القومية في العالم العربي

شهد العالم العربي صعودًا لافتًا لفكرة القومية في القرن العشرين، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وبداية الاحتلالات الأوروبية. وقد تجلى ذلك في القومية العربية التي سعت لتوحيد الشعوب العربية في كيان واحد، على أساس اللغة والتاريخ المشتركين.

أبرز تجليات القومية العربية ظهرت مع زعماء مثل جمال عبد الناصر في مصر، الذين رفعوا شعار الوحدة العربية، ورفض الاستعمار، والتضامن مع حركات التحرر في آسيا وإفريقيا.

غير أن القومية العربية واجهت تحديات كبيرة، من بينها فشل مشاريع الوحدة السياسية، وتصاعد الانقسامات القطرية، وظهور تيارات إسلامية وقومية محلية (مثل القومية الأمازيغية والكردية) شكّلت بدائل لها أو نقيضًا لها.

القومية في السياق العالمي المعاصر

شهدت القومية موجة جديدة في القرن الحادي والعشرين، مع بروز الحركات الشعبوية في أوروبا وأمريكا. هذه الحركات تستخدم خطابًا قوميًّا يقوم على “استعادة السيادة”، و”حماية الهوية القومية” من التهديدات الخارجية كالهجرة والعولمة.

في أوروبا، صعدت أحزاب مثل “الجبهة الوطنية” في فرنسا، و”البديل لألمانيا”، وحركة “بريكست” في بريطانيا، وكلها ترفع شعارات قومية، وتنتقد الاتحاد الأوروبي. في الولايات المتحدة، شهدت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 عودةً قويةً للخطاب القومي على يد دونالد ترامب الذي رفع شعار “أمريكا أولاً”.

في آسيا، تتجلى القومية في صعود القومية الهندوسية في الهند، والقومية الصينية بقيادة الحزب الشيوعي، وكلها تسعى لترسيخ نفوذ دولها عالميًّا.

العلاقة بين القومية والعولمة

شكّلت العولمة تهديدًا مباشرًا للقومية، إذ تسببت في تقليص سيادة الدول، ونشر ثقافات هجينة، وتدويل الاقتصاد. وقد أدت هذه التحولات إلى ردود فعل قومية رافضة لما تراه تهديدًا لهويتها الوطنية. من جهة أخرى، يرى بعض المفكرين أن القومية قد تتكيّف مع العولمة من خلال إعادة صياغة مفاهيم الهوية والانتماء في إطار عالمي.

الانتقادات الموجهة للقومية

رغم أن القومية قد تكون أداة للتحرر وتأكيد الهوية، إلا أنها تعرضت لنقد واسع بسبب ما قد تحمله من نزعة إقصائية وعنصرية. أبرز هذه الانتقادات تشمل:

• التحول إلى الفاشية: كما حدث في ألمانيا النازية، حين تحوّلت القومية إلى أداة لاضطهاد الأقليات وشن الحروب.

• إقصاء الآخر: القومية المتطرفة تميل إلى اعتبار غير المنتمين للأمة “غرباء” أو “أعداء”، ما يولد العنف والكراهية.

• تقويض التعددية: في المجتمعات المتعددة الإثنيات، تؤدي القومية أحيانًا إلى إضعاف التعايش، وزيادة التوترات الطائفية أو العرقية.

• التضييق على الحريات: بعض الأنظمة تستخدم خطابًا قوميًا لتبرير القمع الداخلي وملاحقة المعارضين بتهمة “الخيانة القومية”.

جدول: مقارنة بين القومية المدنية والقومية العرقية

خاتمة

القومية ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد، تتشابك فيها المشاعر الإنسانية بالتطلعات السياسية والثقافية. فهي قد تكون قوة تحررية تبني الأوطان، وتوحد الشعوب، وتقف في وجه الهيمنة، ولكنها أيضًا قد تتحول إلى قوة تدمير إذا ما أُسيء توظيفها. إن فهم القومية يتطلب مقاربة تاريخية وفكرية معمقة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات والأنماط، وتحلل العلاقة بينها وبين مفاهيم مثل الدولة، الهوية، التعددية، والعولمة.

المراجع

1. Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, Verso Books, 2006.

2. Ernest Gellner, Nations and Nationalism, Cornell University Press, 1983.