معركة الكرامة: ملحمة وطنية في تاريخ الأمة العربية
تعد معركة الكرامة إحدى أبرز المعارك الحاسمة التي دارت في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث ارتبط اسمها بتاريخ الأمة العربية الحديث باعتبارها انتصاراً كبيراً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. قد لا تكون معركة الكرامة بمعنى الجغرافيا والمعركة العسكرية الوحيدة في النزاع الطويل والمستمر، لكنها تُعتبر من المعارك التي تركت أثراً عميقاً في النفوس والأذهان، فهي تجسد تضافر الجهود العسكرية والشعبية وأيضاً البعد الوطني المقاوم. معركة الكرامة التي وقعت في الأردن في عام 1968 كانت محورية في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي، وأصبح لها مكانة خاصة في الذاكرة الفلسطينية والأردنية والعربية بشكل عام.
السياق التاريخي للمعركة
قبل الحديث عن تفاصيل المعركة نفسها، لا بد من التوقف عند السياق التاريخي الذي أفضى إلى اندلاعها. في عام 1967، تعرضت الدول العربية إلى هزيمة قاسية في حرب حزيران أو ما يعرف بحرب 1967، والتي أسفرت عن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان. بعد هذه الهزيمة، كان العرب في حاجة ماسة إلى إعادة بناء قوتهم العسكرية والسياسية والنفسية. شكلت هذه الهزيمة نقطة فارقة في استراتيجية الصراع مع إسرائيل، حيث بدأت تظهر حركات المقاومة العربية في العديد من المناطق، وبرزت الفصائل الفلسطينية على الساحة العربية كقوة مؤثرة تتبنى شعار “تحرير فلسطين” كهدف رئيسي.
في المقابل، سعت إسرائيل إلى تعزيز أمنها الداخلي ومواصلة تنفيذ خططها التوسعية في الأراضي المحتلة. ففي 21 آذار 1968، اختارت إسرائيل تنفيذ عملية هجومية استباقية ضد المقاومة الفلسطينية في منطقة الكرامة في الأردن، بهدف توجيه ضربة قاسمة لها، واستعادة الهيبة العسكرية الإسرائيلية التي اهتزت في حرب 1967. كانت هذه المعركة ذات طابع خاص، إذ لم تكن فقط معركة بين جيشين، بل كانت مواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي وجموع من الثوار الفلسطينيين مدعومين من الجيش الأردني.
موقع معركة الكرامة
تقع الكرامة في منطقة الأغوار الأردنية، وهي منطقة منخفضة بالقرب من نهر الأردن، وتعتبر من أهم المناطق التي شهدت مواجهات متكررة على مر التاريخ. هذه المنطقة شهدت تداخلات مستمرة بين الفلسطينيين والأردنيين والإسرائيليين بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يتوسط الأراضي الأردنية والفلسطينية المحتلة. إنها منطقة سهلية تحيط بها الجبال من عدة جهات، مما يجعلها مكانًا مثاليًا للمناورات العسكرية والمواجهات الميدانية.
وقد ارتبطت الكرامة بهذا المعنى التاريخي، إذ كانت شاهدة على تضحيات جيش الدفاع الأردني والفصائل الفلسطينية التي كانت تعمل من خلال المخيمات والمراكز العسكرية هناك. فالوضع في تلك المنطقة لم يكن معزولًا عن القضايا الكبرى التي كانت تتفاعل في الشرق الأوسط، حيث كانت جميع الأطراف تبحث عن فرص للانتقام وإثبات القوة.
مجريات المعركة
في صباح يوم 21 مارس 1968، بدأ الهجوم الإسرائيلي على منطقة الكرامة، وكان الهدف الرئيسي هو تدمير معسكرات الفدائيين الفلسطينيين في تلك المنطقة، والذين كانوا يتمركزون في قاعدة جوية وأماكن تجمع بالقرب من نهر الأردن. القوات الإسرائيلية التي تقدر بحوالي 15 ألف جندي، من بينهم وحدات مدرعة ومشاة مدعومة بالقوة الجوية، قادت الهجوم من عدة محاور، بهدف شن غارة خاطفة تهدف إلى تدمير القوة الفلسطينية وحرف مسار المقاومة في تلك المنطقة.
وفي المقابل، كان هناك تنسيق بين قوات الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية المسلحة. كان الجيش الأردني تحت قيادة الملك حسين قد قرر أن يشارك بشكل كامل في المعركة للدفاع عن أراضيه وحماية المقاومة الفلسطينية من الهجوم الإسرائيلي. وقد وصل في تلك اللحظة الدعم العسكري من مختلف أنحاء العالم العربي، حيث برزت معنويات الجنود الأردنيين والفلسطينيين بشكل لافت.
عمدت القوات الأردنية والفلسطينية إلى نصب كمائن وتكتيك حرب العصابات في مواجهة الهجوم الإسرائيلي المدعوم بالطيران، مما أدّى إلى تعثر التقدم الإسرائيلي بشكل غير متوقع. استفادت القوات المهاجمة من أسلوب العمليات السريعة المدعومة بالقوة الجوية، لكن عزيمة المقاومين على الأرض ومهاراتهم القتالية في التضاريس الجغرافية الوعرة أجبرت الجيش الإسرائيلي على التراجع.
نتائج المعركة
على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي في العديد من الجوانب، فقد كانت معركة الكرامة نقطة تحول كبيرة في الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث يمكن اعتبارها انتصاراً معنوياً مهما، كان له تأثير كبير على معنويات الأمة العربية.
من أهم نتائج المعركة:
-
تحقيق انتصار نفسي وعسكري:
على الرغم من أن المعركة لم تكن حاسمة بالمعنى التقليدي للنصر العسكري، إلا أن القوات الأردنية والفلسطينية تمكّنت من إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، مما شكّل ضربة قوية لسمعة إسرائيل في المنطقة. -
تعزيز وحدة الصف العربي:
معركة الكرامة أثبتت قوة التنسيق بين القوات الأردنية والفصائل الفلسطينية، مما ساعد على تعزيز الوحدة العربية في مواجهة التحديات المشتركة. ورغم المحاولات الإسرائيلية المتكررة لزعزعة هذا التنسيق، إلا أن المعركة قد رسّخت مبدأ التعاون بين الجيوش العربية والفصائل الفلسطينية. -
دعم المقاومة الفلسطينية:
كانت معركة الكرامة نقطة مفصلية في دعم الحركة الفلسطينية المسلحة، حيث شهدت تزايدًا في الدعم العربي الشعبي والمادي للمجاهدين الفلسطينيين. كما ساعدت المعركة في تعزيز مكانة الفصائل الفلسطينية كقوة فاعلة على الساحة العربية والدولية. -
تغيير في السياسات الإسرائيلية:
هزيمة إسرائيل في معركة الكرامة تسببت في تغييرات في سياستها العسكرية، حيث بدأت تل أبيب تعيد النظر في استراتيجياتها وتحصيناتها العسكرية في المناطق الحدودية مع الأردن.
تذكُّر المعركة وتكريم الشهداء
تعتبر معركة الكرامة إحدى المحطات التاريخية الهامة التي لا تزال عالقة في الذاكرة الجمعية للأردنيين والفلسطينيين والعرب عامة. ومن خلال الاحتفالات السنوية بذكرى المعركة، يتم تجديد العهد بالوفاء للشهداء، وتكريم المقاتلين الذين دافعوا عن كرامتهم وأرضهم ضد العدوان الإسرائيلي. إن إحياء هذه الذكرى ليس فقط تكريمًا للمقاتلين، بل هو أيضًا إحياء لروح المقاومة ضد الاحتلال، وإشارة إلى أن الشعب العربي لا يزال يمتلك القدرة على الصمود والمقاومة.
في الختام، تبقى معركة الكرامة من المعارك المضيئة في تاريخ الأمة العربية، حيث جسدت لحظة من التلاحم والتوحد في مواجهة أكبر قوة عسكرية في المنطقة. وما تزال معركة الكرامة تمثل رمزًا للشجاعة والإباء في مقاومة الاحتلال، ورمزًا للثبات أمام التحديات الكبيرة التي تواجه الشعوب العربية في سعيها لتحقيق الحرية والاستقلال.
