مظفر النواب: شاعر الثورة والتمرد

مظفر النواب: شاعر الثورة والتمرد في الشعر العربي الحديث

يُعد مظفر النواب أحد أبرز الأصوات الشعرية في العالم العربي، لما قدّمه من تجربة فريدة جمعت بين الشعر والسياسة، وبين الجمال الفني والصرخة الثورية. إنّه شاعر لا يشبه أحدًا، حوّل اللغة إلى سلاح مقاومة، وأعاد تشكيل القصيدة لتكون بيتًا للغضب والمنافي والانتماء. ظلّت كلماته شاهدة على أزمنة من القمع والانكسار، كما كانت مرآةً لانتصارات النفس الحرة حين تهزم الخوف وتقول الحقيقة مهما كانت كلفتها.

وُلد مظفر عبد المجيد النواب في بغداد عام 1934، في عائلة أرستقراطية شيعية من أصول هندية، وكان للبيئة الثقافية والسياسية التي نشأ فيها دورٌ كبير في تشكيل وعيه المبكر. برع منذ صغره في نظم الشعر، وتأثر بالتراث العربي الكلاسيكي، لكنه سرعان ما اختار طريقًا شعريًا مغايرًا، يعبّر فيه عن قضايا الناس وآلام الشعوب المضطهدة، ويتجاوز فيه الأطر التقليدية للقصيدة.

الجذور والنشأة

ينحدر مظفر النواب من عائلة ثرية كانت لها صلات واسعة بالحياة الثقافية والسياسية في العراق. حصل على تعليمه في كلية الآداب بجامعة بغداد، حيث درس الأدب، وأظهر ميولًا مبكرة نحو التمرد السياسي والنشاط الثوري، مما أدخله مبكرًا في دوامة المواجهة مع السلطات العراقية المتعاقبة. منذ الخمسينيات انخرط في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وبدأ بنشر قصائده التي حملت نبرة احتجاجية عالية، مما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه أكثر من مرة.

تجربة المنافي والسجون

شكلت تجربة السجن والمنفى جزءًا جوهريًا من حياة النواب. بعد انقلاب 1963 في العراق، حُكم عليه بالإعدام غيابيًا، ثم تم القبض عليه ونُقل إلى أحد سجون الجنوب. تمكّن من الهرب بطريقة درامية عبر نفق محفور داخل الزنزانة، وهو ما أصبح لاحقًا مادة أسطورية في سيرته الذاتية.

لاحقًا، تنقل النواب بين عدة عواصم عربية وأجنبية: بيروت، دمشق، طرابلس، طهران، الجزائر، هانوي، ولندن. هذه المنافي لم تكن فحسب محطات جغرافية، بل كانت مختبرات ثقافية وفكرية، صاغت هويته الشعرية والإنسانية. عانى في المنافي من الفقر والتشرد والملاحقة الأمنية، لكنّه لم يتراجع عن مواقفه، بل زادها شراسة.

التحولات الأسلوبية في شعره

يمثل شعر مظفر النواب لحظة تحول حاسمة في مسيرة الشعر العربي المعاصر. في بداياته، كتب باللغة الفصحى، متأثرًا بكبار الشعراء أمثال بدر شاكر السياب والبياتي، لكنه سرعان ما اتجه إلى كتابة القصيدة بالعامية العراقية، في خطوة جريئة تهدف إلى إيصال الشعر إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولامس فيها العمق الشعبي العراقي بنبرته الغنائية والاحتجاجية.

من أبرز سمات شعره:

• السخرية المريرة: كان النواب يستعمل السخرية كأداة لكشف الواقع وتفكيك البُنى السلطوية والدينية والاجتماعية.

• العنف اللغوي النبيل: لا يتردد في استخدام ألفاظ جارحة وصادمة، لكنها صادقة، وتهدف إلى زلزلة وعي المتلقي.

• المناجاة الصوفية: في بعض قصائده، تظهر نبرة تأملية صوفية تحاكي القلق الوجودي والتوق إلى العدالة الكونية.

• القضية الفلسطينية: كانت قضية العرب الأولى حاضرة بقوة في شعره، واتخذ منها رمزًا لفكرة الظلم والخذلان.

• الأنسنة والحنين: رغم غلظة عباراته أحيانًا، إلا أن شعره مفعم بالحنين إلى بغداد، والمرأة، والحب، والأم، والكوخ البسيط.

أبرز أعماله الشعرية

رغم أن مظفر النواب لم ينشر أعماله في شكل دواوين منتظمة مثل بقية الشعراء، فإنّ قصائده كانت تُتداول شفهيًا ومكتوبة، وتهرّب نسخها عبر الحدود والمنافي، مما جعلها تأخذ طابعًا شبه سري.

من أشهر قصائده:

اللغة الشعرية والثورة الأسلوبية

لم يكن النواب مجرّد شاعر سياسي، بل كان صاحب ثورة لغوية حقيقية. خالف قواعد اللغة الكلاسيكية، وكسر الوزن والقافية بشكل حُر، وابتكر صورًا لغوية جديدة تعكس مزاج عصره المليء بالخذلان. استخدم “الشتيمة الشعرية” كشكل من أشكال المقاومة، وخلط بين العامي والفصيح، بين اليومي والأسطوري، بين الإلهي والمدنّس، في توليفة لغوية فريدة.

شعره لم يكن للترف الجمالي، بل للفضح، للمقاومة، للتنبيه، للانفجار. لذلك كان شعره صوتًا مزلزلاً للأرض السياسية التي تقف عليها الأنظمة الاستبدادية.

الموقف من الدين والسلطة

لم يكن النواب ملحدًا بالمعنى الفلسفي، لكنه كان رافضًا لاستغلال الدين من قبل الأنظمة والمشايخ المزيفين. هاجم في شعره كل أشكال السلطة التي تمارس القمع باسم الله، وانتقد رجال الدين الذين صمتوا على الظلم أو بايعوا الطغاة. في ذات الوقت، كانت بعض قصائده تتضمن مقاطع تأملية ذات نزعة صوفية، مما يدل على تعقيد موقفه الديني: بين الإيمان العميق بالغيب، والرفض القاطع للمؤسسات الدينية الرسمية.

تأثيره في الشعر العربي والمشهد الثقافي

يُعد مظفر النواب من أبرز الشعراء الذين كسروا الطابوهات السياسية والدينية والاجتماعية في العالم العربي. تأثر به عدد كبير من الشعراء والكتاب، وخاصة الذين ظهروا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. لم يكن تأثيره أدبيًا فقط، بل امتد إلى الحركات السياسية والاحتجاجية، حيث كانت قصائده تُقرأ في التظاهرات وتُكتب على الجدران، وتُنشد في السجون.

كما ألهمت تجربته الكثير من الفنانين والمغنين، مثل مارسيل خليفة، وسامي يوسف، وخالد الهبر، وغيرهم، الذين غنوا قصائده أو استوحوا من تجربته الثورية والإنسانية.

العودة إلى الوطن والرحيل

بعد سنوات طويلة في المنافي، عاد مظفر النواب إلى العراق في العقد الأخير من حياته، وكان قد تقدّم به العمر وأرهقته الغربة والمرض. استُقبل استقبال الأبطال، رغم أن صوته الشعري خفت بعض الشيء، لكن حضوره الرمزي ظلّ قويًا. توفي في 20 مايو 2022، بعد صراع مع المرض، في أحد مستشفيات الشارقة، ونعته وزارة الثقافة العراقية ومثقفو الوطن العربي باعتباره أحد رموز الشعر العربي الحديث.

إرث مظفر النواب

إرث مظفر النواب لا يُقاس بعدد دواوين أو صفحات منشورة، بل بتأثيره الثقافي والسياسي والفني. لقد أعاد تعريف وظيفة الشاعر في العالم العربي، حين جعله ضميرًا ناطقًا بالحق، لا مجرّد صانع للجمال. وهو بذلك يسير على خطى شعراء كبار مثل نزار قباني ومحمود درويش، لكنه تجاوزهم في الراديكالية والوضوح السياسي.

لقد تحدى مظفر النواب الأنظمة القمعية، وخاطب الأمة بمفردات لم تكن تُستعمل من قبل في الشعر، مما جعله شاعرًا مختلفًا، فريدًا، لا يُشبه إلا نفسه. كلماته لا تزال تنبض في الذاكرة، وتُتداول بين الأجيال الجديدة التي وجدت في شعره ما لم تجده في الخطب والبرامج والكتب المدرسية.

المراجع:

1. صلاح عبد اللطيف، الشعر والتمرد: دراسة في تجربة مظفر النواب، دار الجمل، بيروت، 2014.

2. عبد الرحمن منيف، ذاكرة للمستقبل: قراءات في الشعر العربي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات، 1996.