مضيعات الوقت حسب فولتير

مضيعات الوقت الأربعة التي تحدث عنها فولتير

يعد الفيلسوف الفرنسي فولتير من أبرز المفكرين الذين أثروا في الفكر الغربي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. فولتير لم يكن مجرد مفكر عقلاني، بل كان أيضاً ناقداً اجتماعياً حاداً، وعُرف بآرائه الثاقبة حول القيم الأخلاقية، السياسية، والدينية في عصره. من بين الكثير من أفكاره، جاءت تصريحاته حول “مضيعات الوقت” التي كان يراها تهديدًا لحياة الإنسان، وسلوكًا يعوق التطور الشخصي. في هذا المقال، سنتناول “مضيعات الوقت الأربعة” التي تحدث عنها فولتير، والتي شكلت جزءًا من رؤيته النقدية للحياة وكيفية استغلال الوقت.

مفهوم مضيعات الوقت في فكر فولتير

فولتير، في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان يعيش في عصر تغلبت فيه القيم الأرستقراطية والتقليدية على معظم مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية. كانت معظم فئات المجتمع تعيش في قالب من الروتين الممل والتقاليد التي لا تعطي مجالًا للإبداع الشخصي. لذلك، اعتقد فولتير أن الإنسان يجب أن يستفيد من وقته في البحث عن الحقيقة والتطور الذاتي بدلاً من الانغماس في أعمال لا تؤدي إلى أي تقدم. تحدث فولتير عن أربعة أشكال رئيسية من مضيعات الوقت التي تمنع الإنسان من تحقيق إمكانياته الكاملة.

1. العيش في الماضي

العيش في الماضي هو أحد أكبر مضيعات الوقت من وجهة نظر فولتير. يعتبر فولتير أن القلق المفرط بشأن أحداث الماضي، سواء كانت لحظات سعادة أو ألم، يمنع الفرد من التقدم في حياته. بالنسبة له، كان الماضي مصدرًا للتعلم وليس لتكرار الأخطاء أو التعلق بالذكريات التي لا يمكن تغييرها. إن الانشغال بالذكريات القديمة يعوق الشخص عن استثمار وقته في الحاضر واستشراف المستقبل.

بناءً على هذه الفكرة، كان فولتير يحث على التحرك نحو المستقبل والعمل على تحسين الواقع بدلاً من التحسر على الماضي. في إحدى مقولاته الشهيرة، قال: “من يعيش في الماضي، يغرق في الأوهام”. يعتبر فولتير أن الانشغال بالماضي هو شكل من أشكال العيش في الوهم، الذي يعيق النمو العقلي والجسدي، مما يجعل الشخص غير قادر على التكيف مع التحديات الجديدة.

2. القلق من المستقبل

جانب آخر من مضيعات الوقت الذي تحدث عنه فولتير هو القلق من المستقبل. يعتبر هذا النوع من القلق مضرًا لأنه يمنع الفرد من اتخاذ القرارات الحاسمة في حياته بناءً على الحاضر. يرى فولتير أن الإنسان لا يمكنه التنبؤ بما سيحدث في المستقبل بشكل دقيق، وبالتالي فإن الانشغال بما قد يحدث يعوق القدرة على اتخاذ قرارات فعالة في الوقت الراهن. إذا كانت الحياة مليئة بالمفاجآت والتغيرات التي لا يمكن السيطرة عليها، فإن القلق المستمر من المستقبل يجعل الشخص يعيش في حالة من التوتر المستمر ويشوش على قدراته العقلية والعاطفية.

كان فولتير يرى أن القلق من المستقبل هو نتيجة عدم الثقة في النفس، وبالتالي كان يحث على ضرورة التعامل مع الحاضر بأقصى درجات الوعي والتركيز. لم يكن فولتير يعتقد أنه من الضروري أن يفكر الإنسان في المستقبل طوال الوقت؛ بل كان يرى أن الشخص يجب أن يخطط له ولكن في نفس الوقت يترك المجال للأحداث الطبيعية التي قد تحدث.

3. الانغماس في التسلية الفارغة

النوع الثالث من مضيعات الوقت الذي تحدث عنه فولتير هو الانغماس في التسلية الفارغة. في زمانه، كانت التسلية جزءًا كبيرًا من الحياة الاجتماعية؛ ولكن فولتير كان يرى أن هذه الأنواع من التسلية التي لا تضيف شيئًا للإنسان تُعتبر من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ضياع الوقت. كان يشير إلى الترفيه الزائد كأداة لقتل الوقت دون أن ينتج عنه أي تقدم فكري أو معنوي.

وفقًا لفولتير، فإن التسلية التي تقتصر على اللهو بدون غاية أو قيمة مثل الجلوس لساعات أمام المسرح أو الانغماس في الشائعات، ليست سوى طريقة لإضاعة الوقت. كان يشدد على أهمية أن تكون الأنشطة الترفيهية ذات قيمة إيجابية تسهم في تطوير العقل والشخصية، بدلاً من أن تكون مجرد ملاذ للهروب من الواقع.

الترفيه الذي يتضمن التفكير أو التعلم أو التواصل المثمر كان أكثر قيمة من الأنشطة التي لا تضيف شيئًا للحياة. وقد اعتبر فولتير أن الاستمتاع بالكتب الجيدة أو السفر إلى أماكن جديدة للتعرف على ثقافات أخرى أو حتى الانخراط في نقاشات فكرية مع الآخرين كانت أمثلة على استخدام الوقت بشكل مثمر.

4. العيش في حالة من الراحة المفرطة

أخيرًا، كان فولتير يرى أن العيش في حالة من الراحة المفرطة هو أيضًا من مضيعات الوقت. كان يعتقد أن الراحة الزائدة تؤدي إلى الركود الذهني والجسدي، مما يحول الإنسان إلى شخص غير قادر على التفاعل مع الحياة بفعالية. لا يعني هذا أنه كان ضد الراحة أو الاستجمام؛ بل كان يركز على أهمية التوازن بين العمل والراحة.

عندما يفرط الإنسان في الراحة والكسل، يصبح عاجزًا عن تحقيق أهدافه في الحياة، ويضيع الفرص التي كانت قد تتيح له النمو والتطور. يرى فولتير أن النشاط العقلي والبدني هو ما يساعد الإنسان على المحافظة على حيويته، وبالتالي كان يشجع على استغلال الوقت في الأنشطة التي تحفز العقل والجسم على حد سواء.

فلسفة فولتير حول الوقت والتقدم

من خلال فكر فولتير حول مضيعات الوقت، يمكننا استخلاص العديد من الدروس حول كيفية التعامل مع الوقت في حياتنا اليومية. كان فولتير يرى أن الوقت هو من أثمن الموارد التي يمتلكها الإنسان، ولذلك يجب أن يُستغل بحذر ووعي. على الرغم من أن العيش في الماضي أو القلق من المستقبل قد يكون جزءًا من الطبيعة البشرية، إلا أن فولتير كان يشجع على تقليل هذه الميول والتركيز على الحاضر والمستقبل.

في العصر الحديث، مع تزايد التحديات التي نواجهها يوميًا، فإن مضيعات الوقت التي حددها فولتير تظل ذات صلة كبيرة. قد لا تكون الحياة اليوم كما كانت في زمن فولتير من حيث الظروف الاجتماعية والسياسية، إلا أن القيم التي أشار إليها لا تزال صالحة. خاصة في زمن التكنولوجيا والتسلية الرقمية، حيث أصبح من السهل الانغماس في الأنشطة التي لا تضيف شيئًا حقيقيًا للحياة.

من خلال هذه المبادئ، يستطيع كل فرد منّا أن يتخذ خطوات صغيرة نحو استعادة السيطرة على وقته وتوجيهه نحو الأهداف التي تهمه حقًا.