مصعب بن عمير أول داعية

أول داعية في الإسلام: مصعب بن عمير نموذج الريادة الدعوية

إنّ التاريخ الإسلامي زاخر بالشخصيات الرائدة التي تركت بصمات خالدة في مسيرة الدعوة إلى الإسلام، ومن أبرز هؤلاء الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي يُعدّ أول داعية في الإسلام خارج مكة، وهو أول من حمل راية الدعوة الإسلامية إلى المدينة المنورة قبل هجرة النبي ﷺ، فمهّد لها السبيل، وأعدّ الأرضية المناسبة لاستقبال الإسلام والانطلاق به إلى العالم.

يُعدّ مصعب بن عمير نموذجًا فذًا في التحول الجذري، والالتزام الكامل بالمبادئ، والتضحية الصادقة في سبيل الدعوة، ما جعله يحظى بمكانة رفيعة في التاريخ الإسلامي والدعوي. وتعود أهمية دراسة سيرته إلى فهم البدايات الأولى لانتشار الدعوة الإسلامية، والتعرّف على الأساليب الدعوية التي رسّخها هذا الصحابي الفذ.

النشأة والبيئة الاجتماعية

وُلد مصعب بن عمير في مكة المكرمة، ونشأ في كنف أسرة غنية مرموقة تنتمي إلى بني عبد الدار، أحد بطون قريش المشهورة. وكانت أمه “خُنّاس بنت مالك” من النساء الشديدات في قريش، شديدة التعلق به، وحريصة على تنشئته تنشئة مترفة، حيث كان يعيش في رغد العيش ونعيم الحياة، وكان يُعرف بحسن المظهر، وطيب الرائحة، وأناقة اللباس.

وقد وصفه الصحابي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه بقوله: “كان مصعب بن عمير أعطر أهل مكة، وأحسنهم لباسًا، وأكثرهم أناقةً في الملبس.” هذا الترف لم يكن عائقًا أمامه في أن يكون من أوائل من استجاب لدعوة النبي ﷺ، بل إنه تخلّى عنه بكامل إرادته حين تبيّن له نور الحق في دعوة التوحيد.

إسلامه المبكر والتحدي الاجتماعي

كان مصعب من أوائل من دخلوا الإسلام في دار الأرقم، وقد أسرّ إسلامه في البداية خوفًا من أمه ومن قريش. ولكن سرعان ما كُشف أمره، فحُبس في بيته، ومُنِع عنه كل شيء حتى الطعام والشراب، ليعود عن دين محمد ﷺ، لكنه أصرّ على التمسّك بإيمانه.

لقد كان موقفه موقفًا عظيماً من التحدي والصبر، حيث فضّل الإسلام على المال والمكانة الاجتماعية، مما جعله قدوة في الزهد والثبات على العقيدة. قال عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “لقد رأيته يومًا وما بمكة فتى أنعم عند والديه منه، ثم لقد رأيته وقد شَعِثَ شعره واغبرّ وجهه، يلبس جلد شاة.”

الدور الدعوي في المدينة المنورة

في العام الحادي عشر من البعثة، وبعد بيعة العقبة الأولى، بعث النبي ﷺ مصعب بن عمير مع وفد الأنصار العائدين إلى المدينة، ليقوم بمهمة عظيمة وهي تعليم الإسلام والدعوة إليه، فكان بذلك أول سفير وداعية في الإسلام، ولذلك يُلقب بـ”أول سفير في الإسلام”.

كان اختياره لهذه المهمة موفقًا، إذ امتاز بالحكمة، والفصاحة، وحسن الخلق، وسعة الأفق، ما جعله أهلًا للقيام بالدور الدعوي في بيئة جديدة مختلفة عن مكة. وقد نزل في المدينة عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وبدأ رحلته الدعوية بهدوء منهجي، يجمع بين البيان والإقناع والقدوة الحسنة.

نجاحه في الدعوة وتحوّل المدينة

شهدت المدينة تحولًا جذريًا في فترة وجيزة من عمل مصعب الدعوي، فقد أسلم على يديه كبار رجالات المدينة مثل:

• سعد بن معاذ، سيد بني عبد الأشهل.

• أسيد بن حضير، أحد زعماء المدينة.

• سعد بن عبادة، من زعماء الخزرج.

أسلم هؤلاء وغيرهم بسبب أسلوب مصعب الذي جمع بين التواضع، وحسن العرض، والصبر، والابتعاد عن الجدال العقيم، وكان يقرأ عليهم آيات من القرآن، ويشرح لهم العقيدة، ويؤمهم في الصلاة، مما أدى إلى دخول أعداد كبيرة من الأنصار في الإسلام، حتى لم تبقَ دار في المدينة إلا وفيها من يتحدث عن محمد ﷺ.

وكان هذا التمهيد هو الذي جعل المدينة المنورة مهيأة تمامًا لاستقبال النبي ﷺ بعد عام واحد في الهجرة، مما شكّل نقطة تحول كبرى في تاريخ الإسلام، حيث انتقل من الاستضعاف إلى التمكين.

منهج مصعب في الدعوة

يمكن تلخيص منهج مصعب بن عمير في النقاط التالية:

1. التدرّج في الدعوة: بدأ بالدعوة الفردية وانتقل تدريجيًا إلى الدعوة الجماعية بعد تكوين القاعدة المؤمنة.

2. القدوة العملية: كان مصعب نموذجًا في التواضع والخلق، ما جعل الناس يحبونه ويتقبلون منه.

3. التركيز على تعليم القرآن: اعتمد على تعليم الناس القرآن وتفسيره، وبيان أحكامه ومعانيه، فكان للقرآن أثر بالغ في قلوب الناس.

4. تجنّب الصدام والصراعات: كان حريصًا على تجنب إثارة النعرات القبلية، واختار الأساليب الهادئة والحوار البنّاء.

5. الصبر والثبات: تحمل المشاق وواجه التحديات بقوة إيمان ورضا تام.

استشهاده في معركة أُحد

بعد الهجرة، شارك مصعب في معركة بدر، وأبلَى فيها بلاءً حسنًا. وفي معركة أُحد، حمل راية المسلمين، وكان من أكثر المقاتلين بسالة، فلما اشتدّ القتال، قُطعت يده اليمنى، فحمل الراية باليسرى، فقُطعت، فاحتضن الراية بعضديه حتى استُشهد، وقُتل وهو في ريعان شبابه، وعمره لم يتجاوز الثلاثين عامًا.

وقد تأثّر النبي ﷺ تأثراً بالغًا عند رؤيته لجثمان مصعب، وبكى عليه وقال: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…” [الأحزاب: 23].

وما كان في كفنه إلا قطعة من قماش إن غُطّي بها رأسه بَدا قدماه، وإن غُطّي بها قدماه بدا رأسه، فقال النبي ﷺ: “غطّوا بها رأسه، واجعلوا على قدميه من الإذخر.”

الدروس المستفادة من سيرة مصعب بن عمير

1. أهمية الاستقامة والثبات على الدين

مصعب هو النموذج العملي لمن يثبت على المبادئ رغم الإغراءات والعقبات، فقد ترك المال، والجاه، وواجه الحرمان والعقاب في سبيل الله.

2. فعالية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة

أثبتت دعوته في المدينة أن الهدوء واللطف والقدوة هي أسلحة أقوى من الجدل والصدام، وكان هذا سرّ نجاحه الكبير.

3. تمهيد الطريق للنهضة الإسلامية

من خلال عمله التأسيسي في المدينة، ساهم مصعب في تمهيد الأرض للدولة الإسلامية، وهي نقطة تحول تاريخية أثّرت في مستقبل الأمة.

4. مكانة الشهداء في الإسلام

استشهاد مصعب مثال على أن العمل الصادق لله لا يضيع، فخلّده التاريخ، ورفع الله ذكره، وجعل موته حياة للأمة.

جدول: مقارنة بين حياة مصعب قبل الإسلام وبعده

خاتمة

يظل مصعب بن عمير رضي الله عنه أحد أعظم النماذج التي قدّمها الإسلام في مجالات الدعوة والتضحية والبذل، فقد جسّد معاني الإخلاص والعطاء والالتزام بالمبدأ، وكان بحق أول سفير للإسلام، ومهندسًا حقيقيًا لنجاح الدعوة في المدينة المنورة، ومحفزًا للنهضة الدعوية التي أطلقت الإسلام للعالم.

لقد علّمنا أن الدعوة لا تحتاج إلى مال ولا سلطة، بل تحتاج إلى صدق النية، وإخلاص التوجّه، وقوة الإيمان، وهي المعاني التي ظلّت حاضرة في كل مراحل حياته القصيرة، لكن العميقة التأثير.

المراجع:

1. ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا.

2. ابن كثير، البداية والنهاية، دار الفكر.