متلازمة المحتال: عن مساهمتي الأولى في البرمجيات مفتوحة المصدر
في عالم التقنية والبرمجيات، حيث تسير الابتكارات بسرعة الضوء وتتجدد الأدوات والمنصات بوتيرة لا تهدأ، يتولد لدى العديد من المبرمجين والمطورين شعور داخلي قد لا يُعبَّر عنه بسهولة. إنه شعورٌ خفيٌّ، غالبًا ما يرافقنا في بداية الطريق، ويظل يلاحقنا حتى ونحن نحقق إنجازات ملموسة: متلازمة المحتال. إنها تلك الفكرة المزروعة في النفس التي توهم الفرد بأنه لا يستحق المكانة التي وصل إليها، وأنه مجرد “محظوظ”، أو أنه خدع من حوله بذكاء زائف. كانت هذه المتلازمة جزءًا من رحلتي في أولى خطواتي نحو المساهمة في البرمجيات مفتوحة المصدر، وهي تجربة كان لها الأثر الأعمق على تطوري المهني والشخصي.
ما هي متلازمة المحتال؟
متلازمة المحتال (Impostor Syndrome) ليست مصطلحًا حديثًا، بل تمت صياغته في سبعينيات القرن الماضي من قبل العالِمتَين النفسيتين بولين كلانس وسوزان آيمز. تصف هذه المتلازمة شعور الشخص بعدم الكفاءة رغم الأدلة الخارجية على نجاحه. يعاني منها الأفراد الذين يظنون بأنهم محتالون، وأنهم لا يستحقون ما حققوه من إنجازات.
وفي مجال يتسم بالدقة العالية والمنافسة مثل مجال البرمجة، تتغلغل هذه المتلازمة في وجدان كثير من المطورين، خاصة أولئك الذين لا يحملون شهادات أكاديمية تقليدية، أو ممن دخلوا هذا المجال عن طريق التعلم الذاتي أو مسارات غير نمطية. هذا الشعور قد يتحول إلى عائق نفسي يمنع الفرد من الانخراط في مجتمعات البرمجة، وخصوصًا البرمجيات مفتوحة المصدر، التي تتطلب الثقة بالنفس والانفتاح على النقد والمراجعة.
الخطوة الأولى نحو البرمجيات مفتوحة المصدر
كان دخولي إلى عالم البرمجيات مفتوحة المصدر قرارًا نابعًا من رغبتي في التطور، وفضولي لفهم كيف تُبنى البرمجيات الكبرى بتعاون مجتمعي. في البداية، بدا الأمر لي وكأنه عالم خاص بالنخبة التقنية، لا يُسمح بدخوله إلا لمن يحملون سنوات من الخبرة وشهادات متخصصة. تصفحت العديد من المشاريع على GitHub وشاهدت قوائم بالأخطاء (Issues) والمساهمات، وقرأت أسماء المطورين ممن تبدو خبراتهم خارقة. كنت أقنع نفسي أنني لست مؤهلاً للمساهمة، وأن مساهمتي ستكون مثار سخرية أو رفض.
هذا الشك الداخلي لم يكن له أساس واقعي، لكنه كان مهيمنًا. استغرقت أشهرًا في مراقبة المشاريع دون أن أُقدم على خطوة حقيقية. وفي كل مرة أفكر في التقدم بمساهمة، كانت الأفكار السلبية تتدفق: “ماذا لو كانت شيفرتي سخيفة؟”، “من أنا لأُعدّل كودًا كُتب من قِبل مهندس عمل في شركات عملاقة؟”، “ربما سأفسد المشروع بخطأ صغير.”
كسر حاجز الخوف: المساهمة الأولى
كانت البداية بمشروع بسيط لإدارة المهام مكتوب بلغة JavaScript. كان المشروع يرحب بالمبتدئين ويضع علامة واضحة في الـ Issues تدل على كون المشكلة مناسبة لمن يساهم لأول مرة (Good First Issue). وجدت خطأ بسيطًا يتعلق بطريقة عرض التاريخ في الواجهة، وقررت أن أتحلى بالجرأة وأجرب.
بدأت بدراسة المشروع بعمق، قرأت توثيق الكود (Documentation)، وفهمت البنية الداخلية. استخدمت فرعًا خاصًا بي (Branch) وعدلت السطر المسؤول عن الخطأ، ثم أرسلت طلب سحب (Pull Request) مع شرح تفصيلي للتغيير.
اللحظات التي أعقبت إرسال طلب السحب كانت مزيجًا من الخوف والتوتر. راجعت الكود عدة مرات، وتفقدت الردود في البريد الإلكتروني كل بضع دقائق. ثم جاءت المفاجأة: أحد مشرفي المشروع علّق بتقدير، وشكرني على التعديل، وأشار إلى أن المساهمة كانت مفيدة. تم دمج التعديل في الفرع الرئيسي للمشروع.
كانت لحظة لا تُنسى. لم يكن التغيير تقنيًا معقدًا، لكنه كان خطوة حقيقية نحو التغلب على المتلازمة، وكسر الحاجز النفسي الذي صنعته في مخيلتي.
التحول التدريجي: من مساهم إلى عضو نشط
مع مرور الوقت، ازداد انخراطي في مشاريع أخرى. بدأت أفهم فلسفة البرمجيات مفتوحة المصدر القائمة على الشفافية والتعاون. لم يكن أحد يتوقع الكمال، بل كانوا يقدّرون الجهد، ويحترمون المبادرة. تعلمت من المراجعات التي تلقيتها، وأصبحت أشارك في مراجعة مساهمات الآخرين. شعرت بأنني لست مجرد مستهلك للكود، بل مساهم في بناء أدوات يستفيد منها الآلاف.
متلازمة المحتال لم تختف تمامًا، لكنها لم تعد تتحكم بي. أدركت أن كثيرًا من المبرمجين الكبار عانوا منها، وأن الأمر لا يتعلق بقدرتي الفعلية، بل بالحالة النفسية التي علينا أن نتعامل معها بوعي.
دور المجتمع والدعم في تخفيف المتلازمة
كان للمجتمع دور بالغ الأهمية في مسيرتي. مجتمعات مثل FreeCodeCamp، وDev.to، وStack Overflow، وحتى Twitter، مليئة بأفراد يشاركون تجاربهم بصراحة، ويعترفون بأنهم شعروا يومًا بأنهم غير مؤهلين. هذه الشفافية كسرت حاجز العزلة، وخلقت بيئة يشعر فيها الفرد بالأمان النفسي.
في مشروعي الثاني، الذي كان أكثر تعقيدًا ويتعلق بإدارة قواعد البيانات، تلقيت مراجعة مفصلة من أحد المطورين المخضرمين، تضمنت ملاحظات دقيقة وتحسينات مقترحة. لم تكن المراجعة انتقاصًا، بل كانت تعليمية تمامًا. تعلمت منها أكثر مما تعلمته من ساعات من القراءة الذاتية. هذه الطريقة في النقد البنّاء، التي تُميز المشاريع مفتوحة المصدر، تساعد في تقوية مهارات الأفراد دون تحقيرهم أو ترهيبهم.
مساهمتي في مشاريع عربية مفتوحة المصدر
مع الوقت، اتجهت للاهتمام بالمشاريع العربية، حيث وجدت أن البرمجيات مفتوحة المصدر ما زالت بحاجة إلى دعم واسع في العالم العربي. بدأت أساهم في توطين المشاريع (Localization)، وإصلاح الأخطاء المتعلقة بالعرض باللغة العربية، وتقديم توثيق تقني واضح للمستخدمين العرب.
أدركت أن هناك حاجة لتطوير بيئة داعمة للمبرمجين المبتدئين العرب، خصوصًا أولئك الذين يعانون من متلازمة المحتال، نتيجة نقص التقدير المجتمعي، أو ضعف المحتوى العربي في مجالات التقنية الحديثة. ولهذا أسهمت في إنشاء مستودع تعليمي على GitHub يحتوي على شروحات مبسطة وأمثلة عملية للمبتدئين، وشجعت المشاركات دون شروط تعجيزية.
الدروس المستفادة من الرحلة
إن مساهمتي الأولى في البرمجيات مفتوحة المصدر لم تكن مجرد تعديل في كود، بل كانت فعلًا تحوليًا في مسيرتي التقنية. لم يعد الخوف من الفشل عائقًا أمام المبادرة، ولم أعد أسمح للأفكار السلبية بالتحكم في قراراتي المهنية. تعلمت أن الكفاءة لا تُقاس بشهادة، ولا بعدد السنوات، بل بالرغبة في التعلم، والقدرة على التفاعل، والمرونة في تلقي الملاحظات.
كما أدركت أهمية دور المؤسسات والمشاريع في خلق بيئة مرحبة. حين تكون المشاريع واضحة التوثيق، وتُخصص مشكلات مناسبة للمبتدئين، وتُقدِّم مراجعات بنّاءة، فإنها لا تسهم فقط في تحسين البرمجيات، بل تسهم في بناء ثقة الأفراد بأنفسهم.
الجدول: عوامل تعزز أو تقلل من متلازمة المحتال لدى المساهمين في البرمجيات مفتوحة المصدر
| العامل | التأثير على متلازمة المحتال | التوضيح |
|---|---|---|
| وجود مشكلات محددة للمبتدئين | يقلل المتلازمة | يساعد في توجيه المساهمين الجدد لمهام يمكنهم إنجازها بثقة |
| توثيق واضح للمشروع | يقلل المتلازمة | يقلل الغموض، ويجعل فهم المشروع أسهل |
| نقد بنّاء ومحترم من المشرفين | يقلل المتلازمة | يشجع على التعلّم، ويكسر حاجز الخوف من الخطأ |
| غياب سياسة مساهمة واضحة | يزيد المتلازمة | يسبب الإرباك، ويزيد الشك في النفس |
| استخدام مصطلحات تقنية معقدة دون شرح | يزيد المتلازمة | يشعر المبتدئين بأنهم غير مؤهلين للفهم أو المشاركة |
| التشجيع العلني للمساهمات البسيطة | يقلل المتلازمة | يعطي إحساسًا بالتقدير، ويشجع على المزيد من التفاعل |
| بيئة طاردة أو نخبوية | يزيد المتلازمة | توحي بأن المساهمة مخصصة لفئة معينة فقط من ذوي الخبرة العالية |
الختام: رحلة نحو الثقة عبر الانخراط
لم تكن المساهمة الأولى في البرمجيات مفتوحة المصدر هي نهاية الطريق، بل كانت بدايته الحقيقية. لقد مكنتني من تجاوز شكوك الذات، وأثبتت لي أن الشجاعة في اتخاذ الخطوة الأولى هي التي تفتح الأبواب أمام التغيير. واليوم، وأنا أنظر إلى رحلتي، لا أرى مبرمجًا بدأ بثقة كاملة، بل أرى شخصًا واجه متلازمة المحتال، وقرر أن لا يجعل منها عائقًا دائمًا، بل محفزًا للارتقاء المستمر.
المراجع:
-
Clance, P. R., & Imes, S. A. (1978). The imposter phenomenon in high achieving women: Dynamics and therapeutic intervention. Psychotherapy: Theory, Research & Practice.
-
GitHub Open Source Guides. https://opensource.guide/

