هل مساعدة الذات تجعلنا نشعر بالسوء؟
يعدُّ مفهوم “مساعدة الذات” من المفاهيم التي اكتسبت شعبية كبيرة في العصر الحديث، خاصة مع تزايد الضغط النفسي والتحديات اليومية التي يواجهها الأفراد في حياتهم. هناك العديد من الكتب والدورات التدريبية التي تروج لمفاهيم وممارسات تركز على تحسين الذات، وتطوير المهارات الشخصية، وتحقيق النجاح عبر استراتيجيات معينة. ولكن هل يساعدنا هذا النوع من التفكير حقاً في تحسين حياتنا؟ وهل من الممكن أن تكون هذه المساعدات الذاتية سبباً في شعورنا بالسوء أو القلق؟ في هذا المقال، سوف نتناول مفهوم مساعدة الذات من جوانب متعددة، ونستعرض التأثيرات السلبية التي قد تنشأ نتيجة لممارسات معينة قد تُروج لها بعض النظريات أو الأساليب المتبعة.
1. مفهوم مساعدة الذات: الفوائد والتحديات
مساعدة الذات يمكن أن تعرف بأنها أي ممارسة أو استراتيجية تهدف إلى تحسين الصحة النفسية، الجسدية أو العاطفية عبر الاعتماد على الذات بدلاً من اللجوء إلى مصادر خارجية مثل العلاج النفسي أو الاستشارات. هذه الممارسات تشمل العديد من الأنشطة، مثل التأمل، كتابة اليوميات، تحديد الأهداف الشخصية، والقراءة عن التنمية الذاتية. وفي السنوات الأخيرة، اكتسبت هذه الأساليب شهرة واسعة، لا سيما في مجالات مثل التنمية البشرية، تحقيق الذات، والرفاهية النفسية.
لكن على الرغم من الفوائد التي قد تجلبها هذه الممارسات، هناك بعض العوامل التي قد تجعلها سببًا في شعور الأفراد بالسوء بدلاً من التحسن.
2. التوقعات غير الواقعية: عبء الكمال
أحد أبرز المشاكل المرتبطة بمساعدة الذات هو فرض التوقعات العالية وغير الواقعية. العديد من كتب التنمية الذاتية أو النصائح التي تروج لها بعض المواقع الإلكترونية تنشر فكرة أن النجاح يجب أن يكون دائمًا ملموسًا وعلى الفور. في بعض الأحيان، تروج هذه المصادر لفكرة أن الفرد يجب أن يكون قادرًا على تحقيق النجاح بأي ثمن، مما يخلق شعورًا بالذنب إذا لم يتمكن الشخص من الوصول إلى هذه المعايير المرتفعة. قد يؤدي ذلك إلى شعور الفرد بالضغط المستمر على نفسه لتحقيق أهداف معينة دون مراعاة قدراته أو ظروفه الشخصية.
هذه التوقعات غير الواقعية قد تُشعر الإنسان بالفشل والإحباط عندما لا يستطيع الوفاء بتلك المعايير المثالية. فالتركيز المستمر على تحسين الذات في ظل هذا الإحساس بالضغط يمكن أن يقود الشخص إلى مشاعر من القلق والتوتر، مما يضر بالصحة النفسية.
3. الانعزال والتجاهل لاحتياجات الآخرين
في بعض الأحيان، تروج ممارسات مساعدة الذات لفكرة الاستقلالية التامة والاعتماد الكامل على الذات. هذا يمكن أن يؤدي إلى إهمال الاحتياجات الاجتماعية والعاطفية للأفراد. عندما يصبح الشخص مهووسًا بتحقيق أهدافه الشخصية فقط، قد يبدأ في الابتعاد عن دائرة علاقاته الاجتماعية. هذا الانفصال عن الآخرين قد يؤدي إلى شعور بالعزلة والوحدة.
من خلال التركيز على الذات بشكل مفرط، قد يفقد الشخص القدرة على التواصل مع الآخرين، مما يزيد من مستوى العزلة العاطفية. هذه العزلة قد تزيد من مشاعر الحزن والاكتئاب، وتقلل من الدعم الاجتماعي الذي يحتاجه الأفراد خلال أوقات الأزمات أو التحديات.
4. الفشل في التعامل مع العواطف السلبية
ممارسة مساعدة الذات في بعض الأحيان قد تعني تجاهل العواطف السلبية، مثل الحزن أو الغضب، التي هي جزء طبيعي من تجربة الإنسان. بعض أساليب التنمية الذاتية قد تشجع على التغاضي عن هذه المشاعر أو محاولة تجاوزها بسرعة. في الواقع، هذا يمكن أن يخلق نوعًا من الإنكار العاطفي.
عدم الاعتراف بالعواطف السلبية وتجاهلها يؤدي إلى تراكم هذه المشاعر بمرور الوقت. بدلاً من أن يتمكن الشخص من التعامل مع مشاعره بطريقة صحية، قد يؤدي هذا إلى انفجار عاطفي أو ظهور مشاعر مزمنة من القلق والاكتئاب. في بعض الأحيان، يمكن أن يكون الاعتراف والتعامل مع هذه المشاعر هو الخطوة الأولى نحو التعافي والشفاء.
5. التشجيع على العزلة النفسية
إن بعض أنواع مساعدات الذات تعتمد بشكل كبير على تقنيات مثل التأمل والتركيز الذاتي، مما قد يؤدي إلى شعور الأفراد بالعزلة النفسية. بالرغم من أن التأمل يمكن أن يكون أداة فعّالة للتركيز وتهدئة العقل، فإن الاعتماد المستمر عليه كحل وحيد للتعامل مع التوتر قد يعزل الشخص عن واقعه الاجتماعي والعاطفي.
عندما يقتصر الشخص على ممارسات فردية في مساعدة الذات دون البحث عن طرق للتفاعل الاجتماعي أو طلب الدعم من الأصدقاء أو الأطباء، فقد يجد نفسه في وضع صعب، حيث يشعر بضعف الترابط الاجتماعي، وهو ما قد يعزز مشاعر السوء والعزلة.
6. الفجوة بين “المثالي” و”الواقعي”
يخلق التركيز المستمر على تحسين الذات نوعًا من الفجوة بين ما يعتقد الشخص أنه يجب أن يكون عليه (المثالي) وبين واقعه الفعلي. تتفاقم هذه الفجوة عندما يركز الشخص بشكل حصري على تحقيق أهدافه دون الأخذ بعين الاعتبار القيود والظروف الخاصة به. النتيجة هي أن الشخص يصبح محبطًا لأنه لا يستطيع الوفاء بتلك الأهداف أو يتعامل مع التحديات التي قد تقف في طريقه.
هذه الفجوة قد تؤدي إلى شعور دائم بالفشل وعدم الكفاءة. يصبح الشخص أكثر تركيزًا على ما يفتقر إليه بدلًا من الاعتراف بما حققه من تقدم، مما يزيد من مشاعر السوء والخيبة.
7. التوتر الناتج عن التغيير المستمر
مساعدة الذات في بعض الأحيان تتضمن تغييرات مستمرة في العادات والسلوكيات، سواء كان ذلك في مجالات النظام الغذائي أو ممارسة الرياضة أو التأمل. لكن التغييرات المستمرة قد تكون مرهقة، خاصة إذا كانت غير مدروسة أو مفاجئة. فعندما يقرر الشخص أن يبدأ في تطوير عادة جديدة، قد يواجه تحديات نفسية وجسدية تجعله يشعر بالإرهاق.
هذه التغييرات السريعة يمكن أن تخلق شعورًا بعدم الاستقرار، مما يزيد من مستوى التوتر والقلق. وفي بعض الحالات، يمكن أن تؤدي إلى مشاعر من الإحباط عند عدم تحقيق النتائج المطلوبة بسرعة.
8. الحاجة إلى الراحة والموازنة
من الضروري أن يكون هناك توازن بين تحسين الذات وبين السماح للذات بالراحة. لا يجب أن تكون مساعدة الذات عملية مستمرة ومكثفة طوال الوقت. عندما يعتقد الشخص أن كل لحظة يجب أن تكون موجهة نحو تحسين الذات، فإنه يفقد متعة الحياة اليومية والأشياء البسيطة التي تجلب له السعادة. يحتاج الفرد أحيانًا إلى الراحة والاسترخاء، وممارسة الأنشطة التي لا ترتبط بالتحسين المستمر للذات.
إذا أصبحت المساعدة الذاتية عبئًا أو منافسة شديدة للراحة النفسية، فإن الشخص قد يشعر بالإرهاق الشديد والعجز عن الاستمتاع بالحياة.
9. التأثيرات الاجتماعية والمقارنات
من الأمور التي قد تزيد من شعور الشخص بالسوء أثناء ممارسة مساعدة الذات هي المقارنات المستمرة مع الآخرين. في العصر الرقمي، حيث يمكن للأفراد أن يطّلعوا على حياة الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح من السهل الوقوع في فخ المقارنات. عندما يرى الشخص حياة الآخرين المثالية، فقد يعتقد أن ما يفعله هو أقل قيمة أو نجاحًا.
هذه المقارنات يمكن أن تؤدي إلى شعور بالانعدام الشخصي وفقدان الثقة بالنفس. وعندما لا يرى الشخص نفسه على قدم المساواة مع الآخرين الذين يظهرون صورة حياتهم المثالية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاعر سلبية مثل الخيبة والندم.
10. التوجه الصحيح لمساعدة الذات
من الضروري أن تكون ممارسات مساعدة الذات متوازنة ومعقولة. يجب أن تكون مرتكزة على قبول الذات وتحقيق التقدم في مجالات الحياة التي تتناسب مع ظروف الشخص الفريدة. ينبغي أن يتم التعرف على العواطف السلبية وتقبلها كجزء من التجربة الإنسانية، بدلاً من محاولة إخفائها أو التغاضي عنها.
أحد المفاتيح لتحقيق توازن صحي في مساعدة الذات هو الاعتراف بأن كل شخص يتطور بوتيرة مختلفة. بدلاً من السعي وراء الكمال، يجب التركيز على التحسين المستمر والتقدم الصغير، وتجنب الوقوع في فخ التوقعات غير الواقعية.
خلاصة
على الرغم من أن ممارسات مساعدة الذات يمكن أن تكون مفيدة في تعزيز النمو الشخصي وتحقيق الأهداف، إلا أن لها أيضًا أوجه سلبية قد تؤدي إلى شعور بالسوء إذا لم يتم ممارستها بشكل متوازن. إن الابتعاد عن المقارنات، التوقعات غير الواقعية، والضغط المستمر لتحسين الذات يمكن أن يساعد في الحد من التأثيرات السلبية لمساعدة الذات. الأمر يتطلب الاعتراف بالعواطف السلبية، السماح للذات بالراحة، والبحث عن دعم اجتماعي عند الحاجة.
