مراحل معالجة مياه الشرب

عنوان المقال: مراحل معالجة مياه الشرب

تمثل المياه الصالحة للشرب عنصراً أساسياً لا غنى عنه في حياة الإنسان، فهي ضرورة حيوية لاستمرار الحياة وضمان صحة الأفراد والمجتمعات. إلا أن المياه الطبيعية التي تُستخرج من الأنهار أو الآبار أو البحيرات لا تكون غالباً صالحة للشرب مباشرةً، بل تتطلب معالجة دقيقة تمر عبر مراحل تقنية معقدة لإزالة الشوائب والملوثات الكيميائية والبيولوجية. تهدف هذه العمليات إلى إنتاج مياه نقية، آمنة، وخالية من مسببات الأمراض، ومتوافقة مع المعايير الصحية العالمية.

إن نظام معالجة مياه الشرب يعتمد على مبادئ علمية وتقنيات متقدمة، ويتكون من سلسلة متكاملة من الخطوات تبدأ من مصدر المياه الخام، وتنتهي بضخ المياه المعالجة إلى شبكة التوزيع. وفيما يلي عرض موسع وشامل لمراحل معالجة المياه الصالحة للشرب من منظور علمي وتطبيقي.

المرحلة الأولى: السحب والنقل

تُعد مرحلة السحب هي الخطوة الأولية في دورة المعالجة، حيث يتم جمع المياه من مصادرها الطبيعية مثل الأنهار أو الآبار الجوفية أو الخزانات السطحية. يُنقل هذا الماء عبر أنابيب ضخمة باستخدام مضخات قوية إلى محطة المعالجة.

تتطلب هذه المرحلة تدابير أولية لحماية المضخات من الأجسام الصلبة الكبيرة مثل الصخور أو الأعشاب أو النفايات، ويتم ذلك عبر ما يُعرف بـ”مصافي المدخل”، وهي شبكات معدنية تعمل على حجز المواد الكبيرة.

المرحلة الثانية: المعالجة الفيزيائية (الترسيب الأولي)

بمجرد دخول المياه إلى محطة المعالجة، تبدأ أولى عمليات التنقية الفعلية التي تعتمد على الخصائص الفيزيائية للماء:

1. الترسيب الأولي:

توضع المياه في خزانات كبيرة تُعرف باسم “أحواض الترسيب”، حيث تُترك المياه لفترة زمنية محددة تسمح للجسيمات الثقيلة مثل الرمل، والطين، والحصى، والمعادن العالقة أن تترسب بفعل الجاذبية إلى قاع الحوض.

2. التحكم في سرعة التدفق:

يُتحكم بسرعة تدفق المياه عبر هذه الأحواض للحفاظ على بيئة ترسيب مثالية تضمن فصل الجسيمات دون إثارة الرواسب.

المرحلة الثالثة: المعالجة الكيميائية (التخثير والتلبيد)

تُستخدم في هذه المرحلة مواد كيميائية تعمل على تجميع الجزيئات الصغيرة والعالقة في كتل كبيرة تُعرف بـ”اللبيدات”، مما يُسهل من إزالتها.

1. التخثير (Coagulation):

يُضاف إلى المياه مادة كيميائية مثل الشب (كبريتات الألومنيوم) أو كلوريد الحديد، وتؤدي هذه المواد إلى تقليل الشحنة الكهربائية للجزيئات العالقة، مما يتيح لها الاقتراب من بعضها البعض.

2. التلبيد (Flocculation):

بعد التخثير، تُحرّك المياه ببطء باستخدام خلاطات خاصة مما يُحفّز تكتل الجزيئات في كتل كبيرة (اللبيدات). يُراعى في هذه الخطوة زمن الخلط وسرعته لتحقيق أفضل نتائج.

المرحلة الرابعة: الترسيب الثاني (إزالة اللبيدات)

بعد التلبيد، تُضخ المياه إلى أحواض ترسيب ثانية لفصل اللبيدات المتكونة. هذه المرحلة مهمة لأنها تزيل كمية كبيرة من المواد العضوية وغير العضوية التي قد تكون عالقة في المياه.

تُستخرج اللبيدات المُترسبة من القاع بشكل دوري عبر أنظمة تصريف أو تنظيف آلي، وتُنقل إلى وحدات معالجة الحمأة أو تُدفن وفق إجراءات بيئية صارمة.

المرحلة الخامسة: الترشيح

في هذه المرحلة، تمر المياه من خلال مرشحات متعددة الطبقات لإزالة ما تبقى من الجسيمات الدقيقة:

1. مرشحات رملية متعددة الطبقات:

تتألف عادةً من عدة طبقات من الرمل، والحصى، والفحم النشط. يمر الماء ببطء من الأعلى إلى الأسفل، حيث تلتقط كل طبقة نوعاً معيناً من الجزيئات.

2. وظيفة الفحم النشط:

يُستخدم الفحم النشط خصيصاً لامتصاص المواد العضوية، والطعم، والرائحة، وبعض المركبات الكيميائية مثل المبيدات.

3. التنظيف الدوري للمرشحات:

تُجرى عملية غسل عكسي دورية (Backwashing) لإزالة الرواسب التي تتراكم في المرشحات، ويتم ذلك بضخ المياه عكسياً تحت ضغط.

المرحلة السادسة: التطهير (التعقيم)

تشكل هذه المرحلة الركيزة الأساسية لضمان خلو المياه من الكائنات الدقيقة الضارة:

1. استخدام الكلور:

يُضاف الكلور بنسبة دقيقة ومدروسة لضمان قتل البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات. وله تأثير ممتد في شبكة التوزيع للحفاظ على نقاء المياه.

2. الأوزون (O₃):

يُستخدم في بعض المحطات بديلاً للكلور، ويتميز بقدرته الفائقة على التطهير دون أن يخلّف منتجات ثانوية خطيرة.

3. الأشعة فوق البنفسجية:

تُستخدم كمكمل للتطهير الكيميائي في بعض المحطات الحديثة، حيث تُسلّط هذه الأشعة لتعطيل الحمض النووي للكائنات المجهرية.

المرحلة السابعة: التوازن الكيميائي وضبط القلوية

بعد التطهير، يتم ضبط التوازن الكيميائي للمياه لتفادي التآكل أو الترسيب في شبكة التوزيع:

1. ضبط pH المياه:

يُستخدم الجير (هيدروكسيد الكالسيوم) أو الصودا الكاوية لضبط درجة الحموضة.

2. إضافة الفلوريد:

في بعض الدول، يُضاف الفلوريد بكميات ضئيلة لتعزيز صحة الأسنان، وفقاً للمعايير الصحية.

3. إضافة الفوسفات:

يُستخدم أحياناً لمنع تآكل الأنابيب، خصوصاً في الأنظمة القديمة المصنوعة من الحديد أو الرصاص.

المرحلة الثامنة: التخزين والتوزيع

تُضخ المياه المعالجة إلى خزانات ضخمة مخصصة للتخزين، تُبنى غالباً في أماكن مرتفعة لتسهيل التوزيع بالجاذبية:

• الخزانات الاستراتيجية: تُستخدم لتأمين الإمداد في حالات الطوارئ أو الانقطاعات.

• شبكة التوزيع: تتكون من شبكة واسعة من الأنابيب التي تنقل المياه إلى المنازل، والمستشفيات، والمؤسسات الصناعية.

يُراقب ضغط المياه وتدفقها وجودتها بصفة دائمة باستخدام أنظمة تحكم ومراقبة رقمية متقدمة.

جدول توضيحي لمراحل المعالجة ووظائفها

المعايير الصحية والرقابة المستمرة

يُشترط على محطات المعالجة الالتزام التام بمعايير منظمة الصحة العالمية (WHO) ومعايير الدولة المحلية مثل معايير “وكالة حماية البيئة” (EPA) في الولايات المتحدة. تخضع المياه لفحوصات دورية تشمل:

• الفحوص الميكروبيولوجية: للكشف عن البكتيريا مثل الإشريكية القولونية.

• الفحوص الكيميائية: لرصد المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق.

• الفحوص الفيزيائية: مثل درجة العكارة، واللون، والرائحة.

• الفحوص العضوية: لتحديد تركيز المبيدات ومركبات الكربون العضوي.

التحديات المستقبلية في معالجة مياه الشرب

رغم التقدم الهائل في تقنيات المعالجة، لا تزال بعض التحديات قائمة:

• تلوث المياه الجوفية: بسبب المبيدات والمواد الكيميائية الصناعية.

• ظهور ملوثات جديدة: مثل الجسيمات النانوية والمضادات الحيوية.

• الطلب المتزايد: نتيجة النمو السكاني والتوسع الحضري.

• ندرة المياه: خصوصاً في المناطق الجافة وشبه الجافة.

تعكف الدول والمؤسسات على تطوير تقنيات تحلية مياه البحر، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة التشغيل وتقليل الفاقد.

الخلاصة العلمية

إن معالجة مياه الشرب تمر بسلسلة متكاملة من المراحل الدقيقة والمعقدة التي تُنفذ بتقنيات متقدمة ومعايير صحية صارمة لضمان إنتاج مياه آمنة وذات جودة عالية. تمتد هذه العمليات من التنقية الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، مروراً بالتطهير، إلى التوزيع المراقب. تمثل هذه العمليات منظومة أساسية في الصحة العامة، وتُعد من أبرز مؤشرات التحضر والتنمية المستدامة.

المراجع العلمية:

• WHO Guidelines for Drinking-water Quality, 4th Edition, World Health Organization.

• Water Treatment Principles and Design, MWH, John Wiley & Sons, Inc.