محمد مشالي: طبيب الغلابة

محمد مشالي “طبيب الغلابة”: قصة رجل أنقذ حياة آلاف المصريين بعطاءٍ غير محدود

في أزقة مدينة طنطا، وفي قلب الشعب المصري، وُلِد الرجل الذي أصبح رمزًا للرحمة والعطاء: الدكتور محمد مشالي، المعروف بلقب “طبيب الغلابة”. هذا اللقب لم يكن مجرد تسمية عابرة، بل كان تجسيدًا لمسيرة حافلة بالكفاح والتضحية من أجل خدمة الفقراء والمحتاجين. في هذا المقال، نسلط الضوء على حياة هذا الطبيب الذي قرر أن يعيش من أجل الآخرين، متحديًا الظروف المعيشية الصعبة من أجل أن يخفف من معاناة مرضى الفقراء.

البداية: من الفقر إلى الخدمة الطبية

وُلد الدكتور محمد مشالي في 28 فبراير 1944 في مدينة طنطا بمحافظة الغربية. في بيئة فقيرة وصعبة، لم يكن المال موجودًا بشكلٍ وفير، لكنه كان يملك قلبًا مليئًا بالإصرار والطموح. نشأ محمد في أسرة متواضعة تعلم منها أهمية الصبر والإيمان بقدرة الإنسان على تحقيق أهدافه رغم الصعوبات. كان والداه يعملان بجد لتوفير لقمة العيش، وفي نفس الوقت، كانا يحفزان أولادهما على النجاح في مجال التعليم.

عندما قرر الدكتور مشالي أن يصبح طبيبًا، كان هدفه الأول هو أن يساهم في خدمة المجتمع، وأن يقدم العلاج للمحتاجين بلا مقابل مادي. بدأ رحلته العلمية في كلية الطب، حيث كانت التحديات تتراكم أمامه، ولكن إيمانه برسالته وحلمه العميق لم يتزعزع. تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1967، وبعد ذلك تخصص في مجال الباطنة، ليصبح بعدها واحدًا من أشهر الأطباء الذين عملوا في خدمة الطب في مصر.

“طبيب الغلابة”: خيار الحياة أم التزام رسالي؟

لم يكن اختيار الدكتور محمد مشالي أن يصبح “طبيب الغلابة” مجرد خيار شخصي، بل كان مسارًا تعليميًا ورساليًا اختاره بوعي. في أوائل السبعينات، بدأ مشالي العمل في عيادته الخاصة في مدينة طنطا، ولكنه لم يتوقف عن تقديم خدماته للمحتاجين. كان يُقابل مرضاه الفقراء بابتسامة دافئة وقلب مفتوح، وعادة ما يتعهد بألا يترك مريضًا من دون علاج حتى لو كان لا يملك المال الكافي لدفع الأتعاب.

مفاجأة للعديد من الناس كانت عندما عرفوا أن مشالي كان لا يتقاضى مقابلًا عن خدماته الطبية. كان يهدف إلى تقديم العلاج للأشخاص الذين لم يستطيعوا تحمل تكلفة العلاج في المستشفيات الحكومية أو الخاصة، حتى لو كان ذلك يعني أنه سيضحي برغباته الشخصية من أجل العناية بالآخرين.

إحدى أبرز ملامح عمل مشالي كانت رفضه التام للأرباح المالية. كان يعامل مرضاه جميعًا بنفس القدر من الاحترام، سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء. هذا العطاء اللامحدود من مشالي جعله يصبح رمزًا للإنسانية في المجتمع المصري. فحتى عندما كان يواجه صعوبات مالية في حياته الخاصة، لم يكن يرضى بترك مريض دون علاج.

مشالي في خدمة الفقراء

لقد اتخذ الدكتور محمد مشالي من العيادة الخاصة التي فتحها في مدينة طنطا منبرًا لخدمة المواطنين الفقراء. لم تكن العيادة مجرد مكان لتقديم العلاج الطبي، بل كانت أيضًا مكانًا للراحة النفسية والدعم المعنوي. كان مشالي يولي اهتمامًا كبيرًا للجانب النفسي لمرضاه، ويحثهم دائمًا على التفاؤل.

على الرغم من التحديات التي كانت تواجهه، مثل نقص المعدات الطبية أو الأدوية، كان مشالي يعمل بأقصى جهده لتوفير الرعاية الصحية اللازمة للمحتاجين. استمر في مساعدة هؤلاء الذين لا يستطيعون دفع تكاليف العلاج، وأصبح هو الحل للكثيرين ممن يعجزون عن الوصول إلى المستشفيات الكبرى.

لقد أظهر مشالي في كل خطوة من خطوات حياته المهنية عمق إنسانيته، فكان يخصص أيامًا معينة لاستقبال المرضى الفقراء بالمجان. كان يخصص جزءًا من دخله الشخصي لدعم مراكز طبية وتوفير الأدوية لمستحقيها. حتى أنه كان يقوم بزيارة المرضى في المنازل أحيانًا إذا كانت حالتهم الصحية تتطلب ذلك.

أثره في المجتمع

عُرف الدكتور محمد مشالي ليس فقط في طنطا بل في مختلف أنحاء مصر، حيث أصبح “طبيب الغلابة” هو المثل الأعلى للعديد من الأطباء الذين يبحثون عن مهنة الطب كوسيلة لخدمة المجتمع وليس كطريق لتحقيق الربح. تحول مشالي إلى نموذج يحتذى به في الطب الإنساني، إذ أثبت أن العطاء هو جوهر المهنة الطبية.

لم يكن مشالي محصورًا فقط في علاج الأمراض الجسدية، بل كان يشارك في رفع الوعي الصحي داخل المجتمع. وقد أسهم في توعية الناس بطرق الوقاية من الأمراض والأوبئة، مما جعله رمزًا ليس فقط للأطباء ولكن أيضًا للأفراد العاديين الذين يسعون لجعل المجتمع مكانًا أفضل.

لقد ترك مشالي إرثًا غير مادي في المجال الطبي، فقد أثبت أن الطبيب ليس مجرد شخص متخصص في علاج الأجساد، بل هو شخص لديه القدرة على تغيير حياة الآخرين من خلال تقديم الدعم المعنوي والنفسي، وفي بعض الأحيان من خلال مجرد إصغاء مخلص لمشاكلهم.

التحديات التي واجهها مشالي

واجه الدكتور محمد مشالي العديد من التحديات خلال حياته، سواء من حيث العمل في ظل نقص الإمكانيات الطبية أو في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد. كما تعرض لانتقادات من البعض الذين اعتقدوا أنه كان “يقلل من قيمة مهنته” من خلال تقديم العلاج بالمجان.

إلا أن مشالي كان يرد على هذه الانتقادات بنظرة أعمق. كان يؤمن أن الطب رسالة وليس تجارة. بالنسبة له، لم يكن المال هو المحرك الأساسي وراء عمله. لقد أكد في العديد من المناسبات أن ما يهمه هو إسعاد المرضى ومساعدتهم على تجاوز معاناتهم الصحية، بغض النظر عن أموالهم أو مكانتهم الاجتماعية.

تواجه مشالي أيضًا صعوبات في توفير الأدوية للمرضى، ولكن كان دائمًا يجد حلولًا مبتكرة لمساعدة المرضى. كما كان يقابل الكثير من الحالات الصعبة التي تتطلب جراحة معقدة أو علاجًا طويل الأمد، لكنه كان يعالجها بكل تفانٍ، ويشرف على علاجهم حتى في أحلك الظروف.

النهاية: وفاة الدكتور محمد مشالي

في 28 يوليو 2020، توفي الدكتور محمد مشالي عن عمر يناهز 76 عامًا، بعد مسيرة حافلة بالعطاء. كان رحيله بمثابة صدمة كبيرة للعديد من المصريين الذين رأوا فيه رمزًا للإنسانية والعطاء.

رغم وفاته، فإن إرثه سيبقى حيًا في قلوب كل من عرفوه، وسيتذكره الجميع كطبيب قدّم حياته لخدمة الناس دون أن يطلب شيئًا في المقابل سوى رضا الله. سيظل “طبيب الغلابة” عنوانًا للرحمة والإنسانية، وسيتذكره التاريخ كأحد أبرز الأطباء الذين قدموا أروع الأمثلة على التفاني في خدمة المجتمع.

لقد كان الدكتور محمد مشالي نموذجًا يُحتذى به في كل شيء؛ في الصبر، في التضحية، وفي الإنسانية. ورغم أنه رحل عن عالمنا، فإن بصماته ستظل حية في كل ركن من أركان المجتمع المصري.