محاربة الإسلام للتمييز العنصري

محاربة الإسلام للتمييز العنصري

منذ بزوغ فجره في جزيرة العرب، حمل الإسلام رسالة سامية للبشرية، تتجاوز الزمان والمكان، تدعو إلى التوحيد والعدل والمساواة، وتنبذ الظلم والتمييز بجميع صوره، وعلى رأسها التمييز العنصري الذي يقوم على تصنيف البشر على أساس اللون أو النسب أو العرق. لقد كان الإسلام ثورة حقيقية على المفاهيم الجاهلية التي جعلت من القبيلة والنسب معيارًا للتفاضل بين الناس، فجاءت تعاليمه قوية وواضحة في تأكيد وحدة الأصل البشري وكرامة الإنسان، فمحا الفوارق العنصرية، وزرع بذور الأخوة الإنسانية، وجعل التقوى والعمل الصالح الميزان الحقيقي للتفاضل بين البشر.

التأسيس القرآني لمبدأ المساواة

في القرآن الكريم، نجد تأصيلاً واضحًا لمبدأ المساواة بين الناس، فالله تعالى يقول:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

هذا النص يؤسس لفكرة مركزية في العقيدة الإسلامية، وهي وحدة الأصل الإنساني، فالناس جميعًا من ذكرٍ وأنثى، ثم تفرعوا إلى شعوب وقبائل لا ليتفاخروا، بل ليتعارفوا، أي ليقيموا علاقات قائمة على التفاهم والتعاون، لا على الصراع والتمايز العرقي. وجعل الله معيار التفاضل الوحيد هو التقوى، وهو معيار لا يمكن أن يُقاس إلا عند الله، ما يعني عمليًا إسقاط أي اعتبار دنيوي للتفاضل بين البشر.

موقف النبي ﷺ من التمييز العنصري

جاءت سيرة النبي محمد ﷺ تطبيقًا حيًا لتلك المبادئ القرآنية، فقد كانت مواقفه وأقواله تجسد محاربة التمييز العنصري بكل أشكاله. ومن أبرز المواقف ما ورد في خطبته المشهورة يوم عرفة في حجة الوداع، حيث قال:

“يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى”.

بهذا الإعلان الحاسم، نسف النبي ﷺ كل أشكال التعصب العرقي والقومي، وأرسى مبدأ أن الكرامة الإنسانية لا ترتبط بلون أو لغة أو أصل، وإنما بالنية الصالحة والسلوك القويم.

تجارب الصحابة في مكافحة العنصرية

لم تقتصر محاربة الإسلام للتمييز العنصري على النصوص والمبادئ، بل تجسدت في التطبيق العملي من خلال تجارب الصحابة، ومن أبرز تلك التجارب ما وقع مع الصحابي الجليل بلال بن رباح، العبد الحبشي الذي كان يُعذَّب في الجاهلية بسبب إسلامه. رفعه الإسلام ليصبح مؤذن النبي الأول، ويقف على الكعبة يوم فتح مكة معلنًا الأذان، في مشهدٍ أثار دهشة سادة قريش الذين لم يعتادوا رؤية عبد أسود في هذا المقام الرفيع. كان هذا المشهد إعلانًا عمليًا لانتصار الإسلام على العنصرية الجاهلية.

كما روى البخاري أن الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، حينما عيّر بلالًا بأمه، قال له النبي ﷺ:

“يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!”.

بهذا التوبيخ الصريح، أظهر النبي ﷺ أن كل تصرف ينم عن عنصرية هو بقايا من الجاهلية المرفوضة التي جاء الإسلام ليقضي عليها.

إزالة الفوارق الاجتماعية في التشريعات

سنّ الإسلام تشريعات متكاملة تقوّض البنى الاجتماعية التي كانت تعزز التمييز العنصري، ومن ذلك:

• التكافؤ في الحقوق والواجبات: فالمسلمون متساوون أمام الشريعة، لا فرق بين غني وفقير، أو عربي وعجمي، في الحقوق والواجبات.

• تحريم الاسترقاق العنصري: الإسلام لم يشرّع العبودية، بل جاء في بيئة كانت العبودية سائدة، وبدأ في محاربتها تدريجيًا عبر التشريعات، حيث جعل من تحرير العبيد من أعظم القربات إلى الله، وربط بين الكفارات المهمة وعتق الرقاب.

• تكافؤ الدماء في القصاص: لم يُفرق الإسلام في القصاص بين الناس، فجعل دم العبد كدم الحر، ودم الأسود كدم الأبيض، فالجميع سواسية أمام القضاء.

الصلاة والحج كمؤسسات عملية للمساواة

من أبلغ صور محاربة الإسلام للتمييز العنصري تتجلى في العبادات الجماعية التي تؤسس للمساواة بين البشر بصورة عملية:

• الصلاة: يصطف المسلمون جنبًا إلى جنب في صفوفٍ لا يميز فيها بين غني وفقير، أو أبيض وأسود. تقف الأمة كلها متجهة إلى قبلة واحدة، خاضعة لله وحده.

• الحج: يعكس الحج وحدة المسلمين رغم اختلاف أعراقهم وألوانهم، إذ يلبسون لباسًا موحدًا (الإحرام) ويلبّون بنداء واحد، متساوين في الشعائر والمواقف، وهذا يرسخ المساواة في أذهان المسلمين بطريقة وجدانية لا مثيل لها.

المساواة في التزويج والتعاملات الاجتماعية

أقرّ الإسلام مبدأ التكافؤ في الزواج، لكنه لم يجعل العرق أو اللون عائقًا شرعيًا أمام الزواج، وإنما يُنظر فيه إلى الدين والخُلُق. فقد زوّج النبي ﷺ زيد بن حارثة (الذي كان مولىً) من زينب بنت جحش القرشية، ثم زوّج أسامة بن زيد (ابن زيد الحبشي) من بني قريش. هذه الخطوات كانت صادمة للمجتمع العربي الذي كان يعتبر النسب والقبيلة أسمى من أي قيمة، فجاء الإسلام ليقلب هذه القيم رأسًا على عقب.

محاربة الإسلام لألفاظ العنصرية والتنابز بالألقاب

اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بكلمات الناس وتعبيراتهم، فحرّم السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، لأنها تغذي مشاعر الكراهية والتمييز. يقول تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ [الحجرات: 11].

توجيه مباشر بعدم السخرية على أساس الشكل أو الجنس أو العرق، وفيه ترسيخ لفكرة أن التفاضل الحقيقي لا يُقاس بالمظاهر بل بجوهر الإنسان وعمله.

أثر الإسلام على المجتمعات متعددة الأعراق

حينما انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية، دخلته أممٌ وشعوبٌ متعددة الألوان والألسنة والثقافات، كالروم، والفرس، والنوبيين، والبربر، والهنود، والترك. ورغم هذا التنوع الهائل، لم تظهر في الحضارة الإسلامية أي طبقية عنصرية قائمة على العرق، بل ظهر في الأمة علماء وقادة من شتى الأعراق دون تمييز، مثل:

الإسلام كمنظومة حقوقية مناهضة للعنصرية

لقد سبق الإسلام كل المواثيق الدولية الحديثة في ترسيخ مبدأ المساواة ومكافحة التمييز العنصري. ففي الوقت الذي كانت فيه حضارات كبرى تقوم على التفرقة بين الأجناس، جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري ويؤسس لنظام اجتماعي قوامه:

• العدالة: الجميع متساوون في نيل حقوقهم وعليهم أداء واجباتهم دون تمييز.

• الرحمة: شملت تعاليم الإسلام ضرورة الرحمة بالضعفاء، واحترام الآخرين مهما كان أصلهم.

• الأخوة: ترسيخ مبدأ “إنما المؤمنون إخوة”، ما يقضي على التمايز الطبقي والعنصري.

خلاصة الرؤية الإسلامية في مواجهة العنصرية

الرؤية الإسلامية لمكافحة العنصرية لا تقتصر على الموعظة أو التنظير، بل تشمل منظومة متكاملة من العقيدة، والتشريع، والسلوك، والتربية، تتغلغل في نفوس المسلمين لتزرع قيم العدل والمساواة. فالإسلام جعل من الإنسان خليفةً في الأرض، كرمه وأعطاه العقل والإرادة، بغض النظر عن شكله أو نسبه أو لغته، وأكد على أن الناس جميعًا مسؤولون أمام الله بأعمالهم لا بأنسابهم.

وقد أثمرت هذه الرؤية في بناء مجتمع عالمي متنوع، قائم على وحدة العقيدة والمبادئ، لا على وحدة اللون أو الجنس، وهذا ما جعل الحضارة الإسلامية واحدة من أكثر الحضارات انفتاحًا واندماجًا بين الشعوب المختلفة.

المصادر

1. تفسير الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.

2. السيرة النبوية، ابن هشام.