متى يتحقق حد الزنا؟

حدّ الزنا ومتى يتحقق شرعًا

الزنا في الشريعة الإسلامية من أكبر الكبائر، وأشد الجرائم التي نهى الله تعالى عنها لما فيه من اعتداء صارخ على الأعراض، وتفكيك لبنية الأسرة، وإفساد للنسل، وإشاعة للفاحشة في المجتمع. وقد أحاط الإسلام هذه الجريمة بسياج منيع من التشريعات والضوابط التي تُغلق الأبواب المؤدية إليها، كما قرر لها عقوبات دنيوية وأخروية صارمة. ولأهمية هذا الموضوع، تتضح الحاجة إلى تحديد المعنى الدقيق للزنا في الفقه الإسلامي، وبيان القدر الذي يتحقق به الزنا حتى يستوجب العقوبة المقررة في الشرع.

تعريف الزنا شرعًا

الزنا لغةً: هو الفعل الفاحش الذي يتم بين رجل وامرأة من غير عقد نكاح شرعي.

أما الزنا شرعًا: فهو “وطء الرجل للمرأة في القُبل من غير عقد زواج صحيح، مع علمه بالتحريم، مع انتفاء الشبهة أو الإكراه”، كما قرره جمهور الفقهاء.

يتعلق مفهوم الزنا بعدة شروط وأوصاف دقيقة لا يتحقق بدونها، وتُفرّق الشريعة بين الزنا الحقيقي الذي يستوجب الحدّ، وبين ما دون الزنا من مقدمات الفاحشة التي توصف بأنها زنا مجازي أو مجرّد معصية أو فاحشة تستحق التعزير دون إقامة حدّ.

شروط تحقق الزنا الذي يُوجب الحد

حتى يُعد الفعل زنا موجِبًا للحدّ، لا بد من تحقق عناصر وشروط محددة نص عليها الفقهاء والمجتهدون بناءً على أدلة من الكتاب والسنة، ومن هذه الشروط:

1. الإيلاج في القُبل فعلًا

لا يُعدّ الفعل زنا موجبًا للحدّ إلا إذا حصل الإيلاج التام ولو بجزء من الحشفة (رأس الذكر) في فرج المرأة، كما نص جمهور الفقهاء. وهذا ما يسمى في الفقه “الوطء المحرّم”، ويشترط أن يتم في القبل تحديدًا، أما الدبر فلا يدخل في حد الزنا بل يُعد من الكبائر المستوجبة للتعزير لا الحد.

وقد نص الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن مجرد اللمس أو التقبيل أو المباشرة دون الإيلاج لا يُعدّ زنا موجبًا للحد، بل هو من مقدمات الزنا التي تُوجب التعزير، لا الحد الشرعي.

2. تغييب الحشفة أو قدرها

أجمع الفقهاء على أن القدر الذي يتحقق به الزنا حدًا هو تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في فرج امرأة أجنبية دون نكاح. ومعنى “تغييب الحشفة” أي دخول رأس الذكر في الفرج، أما إن حصل ما دون ذلك كالملامسة أو مجرد الإدخال الجزئي غير الكامل فلا يتحقق به الزنا الذي يُوجب الحد.

ويُستدل على ذلك بما ورد في السنة من تقارير حول إقامة الحد على من ثبت زناه، ومنها حديث “المرأة الغامدية” التي أقرت بالزنا، ووضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الزنا لا يثبت إلا بدليل قاطع على الإيلاج.

3. انتفاء الشبهة

الحد لا يُقام إلا عند انتفاء الشبهة، فلو وُجدت شبهة عقد، أو شبهة إكراه، أو عدم العلم بالتحريم، فلا يُقام الحد. بل تكون العقوبة تعزيرية فقط. ومثال ذلك من واقع الفقه: من وطئ امرأة ظنًا أنها زوجته بعقد فاسد أو زواج باطل لا يعلم بفساده، فلا يُقام عليه الحد.

4. العقل والبلوغ والاختيار

الزنا لا يُعتبر موجبًا للحدّ إلا إذا وقع من شخص عاقل بالغ مختار، فلا حد على المجنون، ولا على الصبي، ولا على المكره. ويُشترط كذلك العلم بالتحريم. فمن جهل حرمة الزنا لحداثة عهد بالإسلام أو النشأة في بيئة جاهلة، لا يُقام عليه الحد، بل يُعلّم وتُدرّس له الأحكام.

أنواع الزنا في الشريعة

قسّم الفقهاء الزنا إلى أقسام بحسب الجريمة المرتكبة والمكانة الشرعية للفاعل:

1. الزنا المحصن

وهو زنا من سبق له الزواج الصحيح ودخل بزوجته، ثم زنا بعد ذلك. وهذا النوع من أشدّ أنواع الزنا، وعقوبته في الإسلام هي الرجم حتى الموت، كما ورد في الحديث الصحيح: “الثيب بالثيب جلد مئة والرجم”. وقد طبقه النبي ﷺ في قصة ماعز والغامدية.

2. الزنا غير المحصن

وهو زنا من لم يسبق له زواج صحيح بدخول، كمن لم يتزوج قط، أو تزوج ولم يدخل، فهذا يُجلد مئة جلدة ويُغرب عامًا كما ورد في قوله تعالى:

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

الزنا المجازي وما دونه

ورد في الحديث الصحيح: “كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما السمع، واليد زناها البطش، والرجل زناها المشي، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه” [رواه مسلم].

وهذا النوع من الزنا هو ما يُعرف بمقدمات الزنا، ويشمل:

• النظر بشهوة.

• التقبيل والمباشرة.

• اللمس والتحسس.

• التخيلات الشهوانية المقصودة.

• الكلمات الإباحية والمحادثات الجنسية.

كل هذه صور لا تدخل في حد الزنا الذي يُوجب إقامة الحد، لكنها من المحرمات، وتدخل تحت الزنا المعنوي أو المجازي، ويُعاقب فاعلها تعزيرًا حسب ما يراه القاضي مناسبًا لحجم الجريمة وحال الجاني.

شروط إثبات الزنا في المحكمة

الشريعة الإسلامية تشترط لتحقيق الزنا وتطبيق حدّه وجود براهين قاطعة، لخطورة العقوبة، وحتى لا يُتهم البريء ظلمًا. وتشمل هذه الأدلة:

1. شهادة أربعة رجال عدول

لابد من شهادة أربعة شهود رجال عدول رأوا فعل الزنا رؤية صريحة لا لبس فيها، كما قال تعالى:

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} [النساء: 15].

فإن لم يكتمل العدد أو شكوا في الفعل، لا يُقام الحد، بل يُدرأ بالشبهة.

2. الاعتراف الصريح المتكرر

إذا أقرّ الزاني أو الزانية بالزنا إقرارًا صريحًا أربع مرات، عند القاضي، وكان الإقرار عن اختيار لا عن إكراه أو مرض نفسي، يُقام الحد. وقد ثبت هذا في واقعة ماعز والغامدية، حيث أصرّ كل منهما على الاعتراف رغم عرض التراجع عليهم من النبي ﷺ.

أثر الزنا في المجتمع

الزنا من أعظم أسباب دمار المجتمعات وزعزعة أمانها، ومن آثاره الخطيرة:

سدّ الذرائع المؤدية إلى الزنا

لخطورة الزنا، لم يكتفِ الإسلام بتجريم الفعل فقط، بل حظر كل السبل الموصلة إليه، ومن هذه المحظورات:

• تحريم النظر بشهوة: كما في قوله تعالى:
  
  {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].

• تحريم الخلوة بالأجنبية: جاء في الحديث: “ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما”.

• تحريم التبرج: لما فيه من إثارة الشهوة ودعوة للفاحشة.

• تحريم السفر بلا محرم: منعًا للفتنة.

• تشجيع الزواج المبكر: لإشباع الحاجة الغريزية بطريقة مشروعة.

فقه درء الحدود بالشبهات

من القواعد الفقهية المشهورة: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”، وهذا ما يُظهر رحمة الإسلام وعدالته، حيث لا يُقام حد الزنا إلا في حالة يقين لا يعتريه شك. وهذه القاعدة تحمي الأعراض من التعدي وتحفظ النفس البشرية من الظلم، وهي ضمانة تشريعية مهمة في القضاء الإسلامي.

خاتمة

الزنا جريمة عظيمة في الشريعة الإسلامية لا تتحقق إلا بقدر دقيق يتضمن الإيلاج التام في القبل، مع تحقق باقي الشروط من البلوغ والعقل والاختيار، مع انتفاء الشبهة. وقد حدد الفقهاء هذا القدر بشكل مفصل وصارم، حفاظًا على المجتمع وصيانة للأنفس والأعراض. كما أن الإسلام في حرصه على تطهير المجتمع من الفاحشة لم يكتف بالعقوبة، بل وضع منظومة شاملة من التشريعات الوقائية والعلاجية تسد كل منفذ يؤدي إلى الفاحشة.

المراجع:

1. ابن قدامة، المغني، دار الفكر، بيروت.

2. النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي.