متى يبدأ الطفل بالكلام؟
تعد القدرة على الكلام من أهم مهارات النمو التي يسعى كل والد أو والدة لرؤيتها في طفلهم. في هذه المرحلة المبكرة من الحياة، يشعر الأهل بمزيج من الفخر والتوقعات عندما يلاحظون بداية استخدام طفلهم للكلمات الأولى. لكن هذا التطور لا يحدث فجأة؛ بل هو نتاج عملية معقدة تشمل النمو العقلي، الاجتماعي، والبدني للطفل. في هذا المقال، سنتناول الموضوع من عدة جوانب، بدءاً من العوامل التي تؤثر في تطور اللغة، مروراً بالمراحل الزمنية التي يمر بها الطفل أثناء تعلمه للكلام، وصولاً إلى العوامل التي قد تؤثر على تأخير أو تسريع هذه العملية.
1. الأسس البيولوجية والنمائية للكلام
قبل أن نبحث في التفاصيل الدقيقة حول متى يبدأ الطفل بالكلام، يجب أن نفهم كيف يتم تطور هذه القدرة من الناحية البيولوجية. اللغة تتطلب تكاملاً بين القدرات الدماغية والحركية، بالإضافة إلى التفاعل مع البيئة المحيطة. الدماغ البشري يمتلك بنية معقدة تدعم هذه العملية، إذ يوجد في الدماغ مناطق خاصة مسؤولة عن إنتاج اللغة وفهمها مثل “منطقة بروكا” و”منطقة فيرنيك”.
تبدأ عملية تطور اللغة منذ مراحل الحمل الأولى، حيث يبدأ الجنين في سماع الأصوات داخل رحم الأم، مما يشكل أساساً لفهم الأصوات المحيطة به بعد الولادة. في الأشهر الأولى بعد الولادة، يبدأ الطفل في تطوير استجاباته الصوتية من خلال البكاء والصوت العشوائي، وهو ما يمكن اعتباره اللبنة الأولى في بناء اللغة.
2. المراحل العمرية لتطور الكلام
تختلف المدة التي يستغرقها كل طفل لبدء التحدث باختلاف الظروف البيئية، الوراثية، والصحية. لكن، وبصفة عامة، يمكن تقسيم مراحل تطور الكلام لدى الأطفال إلى عدة خطوات رئيسية، تتنوع فيها الأنماط والسلوكيات التي يقوم بها الطفل خلال تطوره.
-
الأشهر الأولى (من 0 إلى 6 أشهر):
خلال هذه الفترة، يبدأ الطفل في التفاعل مع محيطه من خلال الأصوات البدائية مثل البكاء، التي تُستخدم للتعبير عن الجوع أو الحاجة إلى الراحة. في هذه الفترة أيضاً، قد يبدأ الطفل في إصدار أصوات عشوائية مثل “آه” و”أوه”، وهي تعتبر بمثابة أولى محاولات الطفل في تقليد الأصوات المحيطة به. -
من 6 إلى 12 شهراً:
هذه المرحلة تعتبر مرحلة “المرحلة اللفظية السابقة”، حيث يبدأ الطفل في تقليد الأصوات بشكل أكبر ويبدأ بإصدار أصوات أكثر تنوعًا مثل التكرار الصوتي، أي أن الطفل يبدأ في إصدار أصوات متكررة مثل “با-ba” أو “ما-ma”. وهذه الأصوات لا تعد كلمات حقيقية بعد، لكنها تمثل بداية الفهم والتفاعل الصوتي مع البيئة المحيطة. في هذه المرحلة، يصبح الطفل أكثر قدرة على الاستجابة للأصوات والنداءات التي يسمعها من والديه أو من الأشخاص المحيطين به. -
من 12 إلى 18 شهراً:
مع اقتراب الطفل من السنة الأولى من عمره، تبدأ الكلمات الحقيقية في الظهور. في هذه الفترة، يبدأ الطفل في نطق أولى كلماته مثل “ماما” أو “بابا”. غالباً ما تكون هذه الكلمات مرتبطة بأشخاص أو أشياء مألوفة له. في هذه المرحلة، يبدأ الطفل في فهم العلاقة بين الأصوات والمعاني، وهذا يشكل نقطة تحول هامة في نمو قدراته اللغوية. -
من 18 إلى 24 شهراً:
مع بلوغ الطفل سن العامين، تبدأ المفردات في التوسع بشكل أسرع. قد يصل عدد الكلمات التي يعرفها الطفل في هذا العمر إلى حوالي 50 كلمة. كما يبدأ الطفل في جمع الكلمات معاً لتكوين جمل بسيطة، مثل “أريد ماء” أو “أين ماما؟”. تبدأ قدرات الفهم أيضاً في التحسن، مما يسمح للطفل بالاستجابة للطلبات البسيطة التي تُوجه إليه. -
من 2 إلى 3 سنوات:
يبدأ الطفل في تكوين جمل أكثر تعقيدًا، وتبدأ مفرداته في التوسع بشكل أسرع. يمكن للطفل في هذه المرحلة أن يشارك في محادثات بسيطة مع من حوله. وعادة ما يبدأ في استخدام الضمائر (أنا، أنت، هو) وتعبيرات أكثر تنوعًا في الكلام. -
من 3 إلى 5 سنوات:
في هذه الفترة، يكون لدى الطفل قدرة متزايدة على استخدام اللغة بشكل دقيق. يكون قادرًا على تكوين جمل طويلة ومعقدة، والتعبير عن أفكاره ومشاعره بوضوح أكبر. كما يبدأ في فهم المفاهيم النحوية واللغوية بشكل أعمق، مثل الجمع والمفرد والماضي والمستقبل.
3. العوامل المؤثرة في تطور اللغة عند الأطفال
تتعدد العوامل التي تؤثر في سرعة وتوقيت اكتساب الطفل للغة، وهذه العوامل يمكن أن تكون فردية أو بيئية.
-
العوامل الوراثية:
كما هو الحال في الكثير من القدرات البشرية، تلعب الوراثة دورًا في تطور اللغة. فقد أظهرت الدراسات أن بعض الأطفال يكتسبون مهارات اللغة بشكل أسرع من غيرهم، وقد يرجع ذلك إلى عوامل جينية تؤثر في نمو الدماغ والقدرة على تعلم اللغة. -
التفاعل الاجتماعي:
التفاعل مع المحيطين من العوامل التي تؤثر بشكل كبير في تطور اللغة. الطفل الذي يتفاعل مع والديه، إخوته، وأقرانه بشكل منتظم، يكون لديه فرص أكبر لاكتساب اللغة بشكل أسرع. التحدث مع الطفل، قراءة القصص، الاستماع للأصوات المحيطة به، كلها تلعب دورًا أساسيًا في تطوير مهاراته اللغوية. -
العوامل البيئية:
البيئة التي ينشأ فيها الطفل لها تأثير بالغ على تطور لغته. الأطفال الذين يعيشون في بيئة غنية بالتحفيز اللغوي، مثل منازل يكثر فيها الحوار والقراءة، يتعلمون اللغة بشكل أسرع من الأطفال الذين لا يتوفر لهم مثل هذا التحفيز. -
الصحة العامة:
المشاكل الصحية مثل ضعف السمع أو اضطرابات النمو العصبي قد تؤثر على قدرة الطفل على تعلم اللغة. من المهم إجراء فحوصات طبية للتأكد من عدم وجود مشاكل صحية قد تؤخر اكتساب الطفل للغة.
4. التأخير في اكتساب اللغة
في بعض الحالات، قد يلاحظ الأهل تأخراً في تطور مهارات الكلام لدى طفلهم. يجب التنويه إلى أن التأخير في الكلام لا يعني بالضرورة وجود مشكلة خطيرة، فقد تكون هناك أسباب طبيعية، مثل الوراثة أو التفاعل المحدود مع البيئة المحيطة. مع ذلك، من المهم في حال التأخر الشديد في نطق الكلمات أو تكوين الجمل أن يتم استشارة مختص، مثل طبيب الأطفال أو أخصائي النطق واللغة، للتأكد من عدم وجود اضطرابات تؤثر على تطور اللغة.
5. دور العائلة في تطوير مهارات اللغة
دور العائلة في دعم تطور اللغة لا يمكن التقليل من أهميته. ينبغي للوالدين أن يكونوا حريصين على التفاعل المستمر مع طفلهم، من خلال التحدث معه، والاستماع له، وتشجيعه على التعبير عن نفسه بالكلمات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد قراءة القصص والمشاركة في الأنشطة الحسية على تحفيز مهارات اللغة لدى الطفل.
الخاتمة
تعتبر عملية تعلم الكلام لدى الطفل من العمليات النمائية المعقدة التي تتطلب تضافر العديد من العوامل البيولوجية والاجتماعية والبيئية. تبدأ هذه العملية منذ الأشهر الأولى من الحياة، وتستمر بالتطور حتى بلوغ الطفل مرحلة النضج اللغوي في سنواته المبكرة. مع متابعة التطور اللغوي، يمكن للأهل توفير بيئة غنية ومحفزة تساعد الطفل على اكتساب مهارات اللغة بشكل فعال، مما يعزز من قدراته على التعبير والتفاعل مع محيطه.
