لماذا لا تبدأ التوبة بالبسملة

لماذا لا تبدأ سورة التوبة بالبسملة

سورة التوبة أو براءة، هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف الشريف، وتتميز بصفة فريدة تميزها عن باقي سور القرآن الكريم، وهي عدم بدء السورة بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، خلافًا لما هو متعارف عليه في بقية السور. هذه الظاهرة التي استرعت انتباه العلماء والقراء على مر العصور لها أسباب ودلالات كثيرة ترتبط بمقاصد الشريعة وخصوصية السورة نفسها، التي تحمل في محتواها رسالة قوية ذات طابع جهادي وتحذيري، مرتبط بفترة زمنية دقيقة من تاريخ الدعوة الإسلامية. هذا المقال يتناول تفسير هذا الاستثناء بالتفصيل من جوانبه الشرعية واللغوية والتاريخية.

طبيعة سورة التوبة ومحتواها

سورة التوبة من السور المدنية التي نزلت بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وتتميز بطابعها الجهادي والإنذاري، حيث تتناول العديد من المواضيع المتعلقة بالعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وخاصة في سياق المعاهدات والعهود التي كانت بين المسلمين وأعدائهم من المشركين في مكة وما حولها.

السورة تحمل في مضامينها إنذارات حازمة للذين نقضوا العهود، وتوجيهات صارمة في قضايا القتال، والرد على الخيانة والنفاق، إلى جانب دعوات للثبات على الدين والجهاد في سبيل الله. وتبدأ السورة مباشرة بآيات تأمر بالبراءة من المشركين الذين خالفوا العهود، وتدعو المسلمين لعدم التعامل معهم بالود أو العهد ما داموا على موقفهم العدائي.

البسملة في القرآن الكريم: موقعها ووظيفتها

العبارة “بسم الله الرحمن الرحيم” تُعرف بالبسملة، وهي الجملة التي تبدأ بها جميع سور القرآن الكريم ما عدا سورة التوبة. البسملة ليست فقط آية في القرآن، بل هي تعبير عن توحيد الله وصفاته الرحمانية والرحيمية، وتعد مدخلاً روحانيًا لقراءة أو تدبر أي جزء من الكتاب الكريم.

وظيفة البسملة في بداية السور يمكن تلخيصها في:

1. الافتتاح والتعريف بالله تعالى، وتشير إلى الرحمة التي تغلف كل الأفعال الإلهية.

2. تهيئة النفس والقلب للتدبر والتأمل في آيات السورة، مع استحضار الخشوع والتواضع.

3. تأكيد على الوحدانية والرحمة الإلهية التي تحيط بكل ما جاء في النص.

البسملة إذن تمثل عنصرًا توحيديًا وروحيًا أساسيًا في معظم سور القرآن، وتكرارها عند بدء السور يؤكد على اتساق الرسالة الإلهية رغم اختلاف موضوعات السور.

الأسباب الشرعية لعدم بدء سورة التوبة بالبسملة

تتعدد التفسيرات الشرعية التي تناولت سبب عدم وجود البسملة في بداية سورة التوبة، ويمكن تصنيفها كما يلي:

1. ارتباط السورة بسياق عتاب وبراءة

سورة التوبة تُعرف أيضًا باسم “سورة براءة”، وهي تحمل إعلان براءة من الله ورسوله للمشركين الذين نقضوا العهود والمواثيق التي عقدوها مع المسلمين. الآيات الأولى من السورة تبدأ ببيان شديد اللهجة ومباشر حول هذه البراءة، وتعبر عن موقف نهائي وحاسم تجاه المشركين.

بداية السورة بالبسملة – التي تعبر عن الرحمة – قد لا تتناسب مع هذا الإعلان الصارم والحاسم، إذ أن السورة في بدايتها تعبر عن البراءة والعقوبة والإنذار، وهو ما لا يتلاءم مع الرحمة الظاهرة في البسملة.

2. استكمال لسورة الأنفال

يرى كثير من العلماء أن سورة التوبة تعتبر بمثابة استكمال لسورة الأنفال، التي انتهت بآيات تتحدث عن الجهاد والقتال. وهكذا، يعتبر البعض السورتين كسورة واحدة متصلة، وأن عدم وجود البسملة في بداية التوبة يعود إلى كونها استكمالًا وليس بداية منفصلة.

هذا الرأي يدعم فهمًا أن التوبة هي تكملة للفصل الجهادي الحاسم الذي انتهت به الأنفال، ومن ثم لم يكن هناك داعٍ للبسملة كافتتاح جديد.

3. نفي الابتداء بالرحمة في هذا المقام

في سياق الرسالة الصارمة التي تحملها السورة، تشير بعض التفاسير إلى أن عدم ذكر البسملة نابع من موقف واضح بأن هذه السورة تنطلق من قاعدة “البراءة” أي إعلان قطع العلاقة والتخلي عن الرحمة لأولئك الذين خالفوا العهود.

وبالتالي، يمكن القول إن السورة لا تبدأ بذكر الرحمة لأن موضوعها الأساسي هو إعلان قاطع لقطع الرحم مع المخالفين، وهذا من الحكمة التشريعية في نصوص القرآن التي تعبر بدقة عن حالة الشريعة وتعاملها مع مجريات الأحداث.

4. تفسير لغوي وفقهي

من الناحية الفقهية، يرى العلماء أن البسملة بمثابة آية مستقلة في بعض الروايات، وبداية سورة التوبة بالبسملة كان قد يخلّط بين السورة التي تبدأ بالبسملة وبين موضوع السورة التي تحمل إعلان الحرب والبراءة.

لذلك، جاء ذلك إشارة إلى خصوصية السورة وتميزها عن باقي سور القرآن، بحيث لا يشترط أن تبدأ كل سورة بالبسملة، خاصة في حالة السورة التي تحمل مثل هذا الطابع الحازم.

النظرة التاريخية والسياقية

يرتبط نزول سورة التوبة بفترة حاسمة من تاريخ الدعوة الإسلامية، وهي الفترة التي عرفت صراعات عدة مع قريش وأطراف أخرى، وكانت المعاهدات مع بعض القبائل مهددة بسبب خيانات ومواقف عدائية.

تبدأ السورة مباشرة بخطاب مباشر وواضح يطالب بالبراءة من المشركين الذين نقضوا العهود، وهو خطاب يعكس أجواء ذلك الزمن، ويعبر عن موقف حاسم من جانب النبي والمسلمين.

عدم بدء السورة بالبسملة جاء ليعبر عن هذه الحالة الاستثنائية التي تتطلب لغة مغايرة للرحمة المعتادة في بداية السور، فالرحمة في هذه الحالة محدودة بالمؤمنين وليس بالمشركين المخالفين للعهود.

التأثير البلاغي والمعنوي لعدم وجود البسملة

غياب البسملة في بداية سورة التوبة له أثر بلاغي عميق في النفوس:

• يخلق حالة من الجدية والصرامة في استقبال السورة، حيث يبدأ القارئ أو المستمع مباشرة إلى جوهر الرسالة دون تمهيد.

• يبرز خصوصية السورة ومضمونها الحاسم، مما يلفت الانتباه إلى أن هذه السورة تحمل أمرًا استثنائيًا يختلف عن باقي سور القرآن.

• يشير إلى قطيعة واضحة مع المخالفين للعهد، ويعزز مفهوم البراءة منهم من جانب الله ورسوله.

مقارنة البسملة في سور القرآن

في القرآن الكريم، توجد بعض الحالات الخاصة في البسملة:

• تبدأ كل السور بالبسملة ما عدا سورة التوبة.

• في سورة النمل، البسملة تُعتبر آية ضمن الآيات التي ذُكرت في القصة، أي أنها ضمن نص السورة، وليست فقط افتتاحًا.

• البسملة في بداية السور تكررت مرات كثيرة لتأكيد رحمة الله وشموليته.

لكن التميّز في سورة التوبة يظهر في غيابها التام، مما يؤكد استثناءها من القاعدة التي اعتاد عليها القارئ.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين سور تبدأ بالبسملة وسورة التوبة:

البسملة في السياق الفقهي والتجويدي

يختلف العلماء في حكم اعتبار البسملة آية من آيات القرآن أو أنها مجرد افتتاح لقراءة السورة. الإمام النووي وابن عاشور وغيرهم تناولوا هذه المسألة، وأجمعوا على أن البسملة آية في بداية السور، إلا في التوبة.

وفي التجويد، يعتبر القارئ أن البسملة افتتاح روحي وقرآني ضروري للتدبر في آيات السورة، لكنه في حالة التوبة يستقبل السورة مباشرة بدون البسملة، كجزء من خصوصيتها.

الخلاصة

عدم بدء سورة التوبة بالبسملة يمثل استثناءً يعكس خصوصية السورة ومضمونها الجهادي الحاسم. هذا الاستثناء له أبعاد شرعية، لغوية، وتاريخية، إذ أن البسملة التي تمثل الرحمة والرحمانية لا تتناسب مع بداية سورة تصف البراءة من المخالفين والعداوة معهم. كما أن هذا الغياب يعزز التأثير البلاغي والروحي للسورة ويؤكد على موقف حاسم من الله ورسوله تجاه من نقضوا العهود.

هذا الأمر يدل على دقة النص القرآني ومرونته في التعبير عن مختلف الحالات والمواقف بأساليب تختلف بحسب مقتضى الحكمة والمقام، ولا يلزم أن تتكرر كل مظاهر الرحمة في كل المواضع، بل تتناسب مع الظروف والمعاني المقصودة. سورة التوبة تظل بذلك نموذجًا فريدًا ومتميزًا في التراكيب القرآنية التي تعكس واقع الدعوة الإسلامية وتاريخها.

المراجع

1. تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري، دار إحياء التراث العربي.

2. التفسير الوسيط، وزارة الأوقاف السعودية.

3. القراءات والتجويد، ابن كثير.

4. الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي.

بهذا الشكل، يظهر النص القرآني متقنًا ومتنوعًا في أساليبه، وتبرز سورة التوبة باستثناءها المميز الذي يفسرها ضمن سياقها التاريخي والشرعي.