قصيدة الكرم في الشعر العربي

الكرم في الشعر العربي: قصيدة ومعاني راسخة في التراث

يُعد الكرم من أسمى القيم الإنسانية التي مجّدها العرب على مرّ العصور، واحتفوا بها في أخلاقهم، وسلوكهم، وأشعارهم، فجعلوا منه عنواناً للفروسية والمروءة والشهامة. ولعل القصائد التي تناولت الكرم تمثل أحد أبرز تجليات هذا التمجيد، حيث أصبحت قصيدة الكرم في الشعر العربي شاهداً على الروح السخية التي امتاز بها العرب، وعلى البنية الأخلاقية التي تأسست عليها مجتمعاتهم قبل الإسلام وبعده.

مفهوم الكرم في الثقافة العربية

الكرم في اللغة هو السخاء في العطاء، سواء أكان مالاً، أو طعاماً، أو وقتاً، أو مساعدة، أو حتى ابتسامة صادقة، أما في الثقافة العربية، فقد اقترن الكرم بمجموعة من القيم الأخرى مثل الشجاعة، والنجدة، ونجدة المستغيث، وحماية الجار، وإكرام الضيف. فكان الكرم عند العرب سلوكاً فطرياً لا تكتمل الرجولة إلا به، ولا تستقيم المروءة دونه.

وقد تفرعت صور الكرم في الثقافة العربية لتشمل: كرم الضيافة، كرم الفداء، الكرم في المعاملة، الكرم في المعذرة، وكرم النفس، وكل هذه الأوجه وجدت طريقها إلى القصائد والملاحم الشعرية، التي سُخّرت لتخليد الكرم كمبدأ خالد.

جذور الكرم في الجاهلية

لم يكن الكرم في العصر الجاهلي مجرّد فضيلة محمودة فحسب، بل كان معيارًا للفخر والنبل ووسيلة لاكتساب المجد. وقد ظهر ذلك جليًا في الأشعار التي كانت تُقال في مدح الكرماء أو رثائهم، ولعل أبرز من جسّد هذه الصورة هو حاتم الطائي، الذي أصبح اسمه مرادفًا للكرم.

يقول حاتم الطائي:

إذا أنت لم تَمنَعْ، وأبصرتَ سائلًا

متى تجعلِ المعروفَ في غيرِ أهلهِ؟

فكلُّ امرئٍ يُجزى بما قد تَعَوَّدَا

ولا يحمدُ المعروفَ إلا المُجرِّبُا

كان حاتم لا يُبقي من ماله شيئاً، ولا يُبقي من زاده شيئًا، فإذا لم يجد ما يقدمه لضيوفه ذبح فرسه أو نحر ناقته.

الكرم في الشعر الإسلامي والأموي

مع بزوغ فجر الإسلام، لم يختفِ الكرم من الساحة، بل تم تعزيز قيمته من خلال النصوص الدينية التي حثت على الإنفاق، والتكافل الاجتماعي، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، فاستمر الشعراء في تمجيده لكن بمنظور أكثر روحانية. وبرزت في تلك المرحلة قصائد مديح للخلفاء والأمراء الذين تميزوا بالكرم، ومن أبرزهم عبد الله بن جعفر، الذي لُقّب بـ “بحر الجود”.

وفي العصر الأموي، تسابقت القبائل والأسر الكبرى لإظهار كرمها، وجعلت من الإنفاق والسخاء وسيلة لبسط النفوذ السياسي والقبلي. فظهر شعراء مثل الفرزدق وجرير والأخطل وهم يمدحون الكرماء، ويسخرون من البخلاء، ويقارنون بين مواقف الكرماء والبخلاء.

الكرم في القصائد العباسية

بلغ الشعر العربي ذروته الفنية في العصر العباسي، وامتدت مواضيع الكرم لتأخذ أبعادًا فلسفية وفنية راقية، وارتبط الكرم بالثقافة، والعلم، والشعر، فكانت المجالس لا تكتمل إلا بالكرم الحسي والمعنوي. وهنا نجد أبا الطيب المتنبي يصف كرم سيف الدولة الحمداني:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

فطَعنٌ في عدوّك وهوَ فخرٌ

وحُسنُ الكرمِ في خفضِ الهجُومِ

ربط المتنبي بين الكرم والشرف، ووضع الكرم في مرتبة العظمة الحقيقية التي لا ينالها إلا أصحاب الهمم العالية.

قصائد خالدة في الكرم

من أجمل القصائد التي خلدت الكرم، القصيدة التي نظمها الشاعر أبو تمام في مدح محمد بن حميد الطوسي، وفيها يقول:

لا يُنكرُ الجودَ إلا منْ طباعُهُ شُحُّ

ولا يرى الكرمَ إلا من لهُ قدرُ

تَرَكتَ للناسِ سُحبَ الجودِ من كرمٍ

وهم بغَيمِك لا سُحبٌ ولا مطرُ

وأيضاً قصيدة البحتري في مدح المتوكل العباسي، حيث قال:

في كفّهِ أملٌ للناسِ ينتظرُ

وفيه للأملِ المنظورِ ما عُذرُ

يُعطي، كأنّ الندى في كفّهِ وَلَدٌ

تاهتْ عليهِ، فكلُّ الناسِ تُفتخرُ

الكرم كقيمة إنسانية في الشعر الصوفي

في مراحل لاحقة، وخاصة في الأدب الصوفي، تطور مفهوم الكرم ليأخذ بعداً روحياً أعمق، إذ بات يُنظر إلى الكرم كصفة من صفات الحق، وتجلياً من تجليات الفيض الإلهي على عباده. وقد عبّر المتصوفة عن هذا المفهوم في شعرهم بربط الكرم بمقام الفناء، حيث يعطي الصوفي نفسه وماله وكلّ ما يملك في سبيل المحبة والمعرفة الإلهية.

يقول جلال الدين الرومي:

أعطِ كما يُعطي الربيعُ

فهو لا يسأل من يأخذُ، ولا إلى من تذهبُ نسائمهُ

كن نهراً يسقي العطاشى

فهذا هو الكرم الذي لا يفنى

الجدول التالي يلخص أبرز الشعراء الذين تناولوا الكرم وأهم خصائص شعرهم

الأثر الاجتماعي للكرم الشعري

لم يكن الكرم مجرد موضوع شعري للتغني به، بل كان أداة فعالة في ضبط السلوك الاجتماعي، وتعزيز الانتماء القبلي، ورفع شأن الأفراد داخل مجتمعاتهم. فكان الشاعر عندما يمدح كريمًا يمنحه مكانة مرموقة في الوعي الجمعي، ويجعل منه نموذجًا يُحتذى به. كما كانت القصائد تُستخدم كوسيلة تعليمية لغرس قيم السخاء في الناشئة، وتأكيد أن البخل عار لا يُغسل.

الكرم في الشعر المعاصر

رغم التغيرات الجذرية التي طرأت على المجتمعات العربية، ما زال الكرم يحتل مكانة مرموقة في الشعر المعاصر، وإنْ كان التعبير عنه قد تغير. فقد أصبح الكرم يظهر في قصائد الحرية، وفي الدعوة إلى نصرة الفقراء، والمقهورين، وفي الدفاع عن القضايا العادلة. الكرم لم يعد مجرد مائدة، بل بات موقفاً إنسانياً يربط الشاعر بقيم التضحية والنبل.

خاتمة

الكرم في الشعر العربي ليس مجرد صورة عابرة أو فضيلة محلية، بل هو جزء أصيل من الهوية الثقافية للأمة. الكرم تحوّل من سلوك فردي إلى منظومة قيمية متكاملة تتجلى في القصائد، والحكايات، والتاريخ، واستمرت تأثيراته حتى يومنا هذا، حيث نجد في كل بيت شعر عن الكرم إشعاعاً خالداً من النور الإنساني، ودعوة مفتوحة للارتقاء بالذات نحو السخاء الذي لا يعرف الحدود.

المراجع:

1. د. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي، دار المعارف.

2. عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، دار الفكر العربي.