كيف فعلوها: قصة نجاح كيفن سيستروم مؤسس إنستغرام

في عالم التكنولوجيا المتسارع، قلما تُكتب قصص النجاح بمثل هذه الدقة والسرعة التي كُتبت بها قصة “إنستغرام”، التطبيق الذي أعاد تعريف الطريقة التي يتفاعل بها البشر مع الصور، وغيّر مشهد وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأبد. هذه القصة لا يمكن فصلها عن اسم “كيفن سيستروم”، المؤسس المشارك لإنستغرام، الذي جسّد في رحلته مزيجًا فريدًا من الشغف، الرؤية، التصميم، والإبداع التقني. نشأ كيفن في بيئة محفزة على التعلم والتجريب، فشق طريقه من طالب في جامعة ستانفورد إلى رائد أعمال باع شركته لشركة فيسبوك مقابل مليار دولار في غضون أقل من عامين على إطلاقها.

النشأة والبدايات الأولى

وُلد كيفن سيستروم في 30 ديسمبر 1983، ونشأ في ولاية ماساتشوستس الأميركية. تلقى تعليمه الثانوي في مدرسة ميدلسكس المرموقة، حيث أبدى اهتمامًا كبيرًا بالحوسبة والبرمجة منذ سن مبكرة. لم تكن التكنولوجيا مجرد وسيلة لهو، بل كانت لغة تواصل بالنسبة له، يعبّر بها عن فضوله ويستكشف من خلالها العالم الرقمي. جذبه عالم الإنترنت الناشئ في التسعينات، وكان يصمم مواقع إلكترونية ويجرب لغات البرمجة كهواية.

التحق بجامعة ستانفورد، المعروفة بأنها مهْد الابتكار التكنولوجي، ليدرس الهندسة والإدارة، وهو اختيار يعكس ميوله التقنية والتجارية في آن. في ستانفورد، بدأ اهتمامه يتبلور حول تجربة المستخدم والتصميم والتفاعل الرقمي. خلال هذه الفترة، حصل على فرصة التدريب في شركة Odeo، التي أصبحت فيما بعد “تويتر”، كما عمل لفترة في “غوغل”، لكنه شعر دائمًا بأنه مقيد في هذه المؤسسات الضخمة، وكان يتوق لصناعة شيء من الصفر.

ولادة فكرة “بوربن”

في عام 2009، بدأ كيفن العمل على مشروع شخصي كان يُدعى “Burbn”، وهو تطبيق مستوحى من حبه للتصوير وتسجيل اللحظات اليومية. كان Burbn في بدايته تطبيقًا يتيح للمستخدمين مشاركة مواقعهم وإضافة صور وتعليقات، وهو مزيج من عدة وظائف موجودة في تطبيقات أخرى. لكن التطبيق لم يلقَ إقبالًا كبيرًا بسبب كثرة خصائصه التي شتّتت المستخدمين، ما دفع كيفن لإعادة النظر فيه.

في هذه المرحلة، تعرّف على مايك كريغر، زميل سابق في ستانفورد، فشكّل معه فريقًا متكاملًا: كيفن كمبرمج ومدير منتج، ومايك كمصمم ومطور واجهات. قرّرا تبسيط التطبيق واختزاله في وظيفة واحدة أساسية: مشاركة الصور بسهولة مع بعض الفلاتر لتحسين جودة الصورة.

من Burbn إلى Instagram: التحول الذكي

أدرك سيستروم وكريغر أن المستخدمين لم يكونوا مهتمين بالمواقع أو تسجيل المواقع الجغرافية بقدر اهتمامهم بمشاركة الصور. وفي ظل الشعبية المتزايدة للهواتف الذكية المزودة بكاميرات، لاحظا أن الناس يحبّون مشاركة صورهم ولكن غالبًا ما تكون الصور رديئة الجودة. كانت الفكرة الأساسية: تقديم طريقة بسيطة وسريعة لالتقاط الصور، تعديلها باستخدام فلاتر، ثم مشاركتها.

أطلقا تطبيق Instagram في أكتوبر 2010. الاسم هو دمج بين “Instant Camera” و”Telegram”، أي الكاميرا الفورية والرسالة المصوّرة. منذ اللحظة الأولى، لاقى التطبيق إقبالًا واسعًا. في أقل من 24 ساعة، تم تحميله أكثر من 25,000 مرة. وبحلول ديسمبر من العام نفسه، تجاوز عدد المستخدمين المليون.

العوامل الحاسمة في نجاح إنستغرام

يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى النجاح السريع لإنستغرام في الآتي:

1. التركيز على البساطة

خلافًا لتطبيقات أخرى حاولت تقديم عدة وظائف في آن، ركّز إنستغرام على شيء واحد: مشاركة الصور. هذه البساطة ساعدت المستخدمين على فهم التطبيق والتفاعل معه بسرعة دون تعقيد.

2. الفلاتر الجمالية

قدّمت إنستغرام لأول مرة فكرة “الفلاتر”، وهي أدوات تعديل فورية تجعل الصور تبدو احترافية. هذا الابتكار جذب المستخدمين، وخاصة الهواة، الذين أصبح بإمكانهم تحسين صورهم دون الحاجة إلى برامج تعديل معقدة.

3. الاستفادة من النمو العضوي

لم ينفق سيستروم أي مبالغ ضخمة على التسويق. اعتمد على قوة الانتشار الفيروسي للتطبيق، بفضل تجربة المستخدم الممتازة والتفاعل الكبير على الشبكات الاجتماعية، خاصة تويتر وفيسبوك.

4. البنية التقنية القوية

برغم أن الفريق كان صغيرًا، فإن إنستغرام كان تطبيقًا موثوقًا من الناحية التقنية، مع خوادم قوية واستجابة سريعة، مما ساهم في الحفاظ على رضا المستخدمين.

5. الانفتاح على المنصات الأخرى

منذ البداية، سمح إنستغرام بمشاركة الصور مباشرة على فيسبوك وتويتر، وهو ما جعل المحتوى ينتشر خارج التطبيق نفسه، وجذب مزيدًا من المستخدمين.

الاستحواذ التاريخي من فيسبوك

في أبريل 2012، وبعد 18 شهرًا فقط من إطلاق التطبيق، أعلن مارك زوكربيرغ عن استحواذ فيسبوك على إنستغرام مقابل مليار دولار نقدًا وأسهم. في ذلك الوقت، كان لدى إنستغرام 13 موظفًا فقط. الصفقة أثارت دهشة واسعة في أوساط التكنولوجيا، ليس فقط بسبب المبلغ الضخم، بل أيضًا لأن إنستغرام لم يكن يُدرّ أرباحًا بعد.

رغم الاستحواذ، احتفظ سيستروم بكامل صلاحيات الإدارة، وهو ما كان شرطًا أساسيًا للموافقة على البيع. تحت مظلة فيسبوك، استمر النمو، وبدأت الشركة بإطلاق ميزات جديدة مثل القصص (Stories)، والبث المباشر، وإعلانات الصور والفيديو، ما جعلها مصدر دخل رئيسي لفيسبوك لاحقًا.

التحول إلى منصة عالمية

بحلول عام 2020، تجاوز عدد مستخدمي إنستغرام مليار مستخدم شهريًا. أصبح التطبيق منصة تسويقية بامتياز، وفضاءً للعلامات التجارية والمؤثرين والمبدعين حول العالم. لم يعد فقط تطبيقًا لمشاركة الصور، بل تحول إلى اقتصاد كامل: “اقتصاد المؤثرين” (Influencer Economy).

اعتمدت الشركات في مختلف القطاعات على إنستغرام للترويج لمنتجاتها، وازدهرت أساليب التسويق المباشر وغير المباشر. كما أصبح التطبيق منصة للموضة، الفن، السفر، وحتى التعليم.

مغادرة إنستغرام

في سبتمبر 2018، أعلن كيفن سيستروم ومايك كريغر عن استقالتهما من إدارة إنستغرام. لم تكن الأسباب واضحة تمامًا، لكن مصادر مقربة أشارت إلى وجود خلافات في الرؤية مع إدارة فيسبوك بعد توسع نفوذها في قرارات التطبيق.

كتب سيستروم في رسالة استقالته أنه يريد “استكشاف فضول جديد وبناء أشياء أخرى”. كان رحيله بمثابة نهاية فصلٍ مهم من القصة، لكنه ترك وراءه إرثًا رقميًا ضخما.

ما بعد إنستغرام: مشاريع جديدة

في عام 2020، عاد كيفن سيستروم إلى الساحة التقنية بمشروع جديد يُدعى Artifact، وهو تطبيق قائم على الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تقديم الأخبار للمستخدمين بطريقة شخصية. يعتمد التطبيق على تقنيات تعلم الآلة لاقتراح المحتوى بناءً على اهتمامات المستخدم، في نموذج يشبه TikTok للأخبار. رغم أن المشروع لم يحقق صدى إنستغرام نفسه، إلا أنه يعكس استمرار اهتمام سيستروم بإعادة تعريف تجارب المستخدم الرقمي.

دروس من رحلة كيفن سيستروم

قصة كيفن سيستروم ليست مجرد قصة رائد أعمال شاب نجح في بناء شركة بمليارات الدولارات، بل هي خريطة طريق لأي شخص يسعى لصناعة شيء مختلف في عالم التقنية أو ريادة الأعمال. ومن أبرز الدروس التي يمكن استخلاصها من مسيرته:

الخلاصة

لقد نجح كيفن سيستروم في تحويل فكرة بسيطة إلى واحدة من أكثر التطبيقات تأثيرًا في العقدين الأخيرين، وغيّر جذريًا طريقة تفاعل البشر مع الصور والتواصل الرقمي. لم يكن إنستغرام مجرد تطبيق، بل كان ثورة في مفاهيم الهوية الرقمية، التعبير الذاتي، والتسويق عبر الإنترنت. جسّد سيستروم بنجاح رؤية شابٍ طموح في جامعة ستانفورد إلى منتج عالمي يمس حياة مليارات البشر. إن رحلته تمثل شهادة حية على قوة الابتكار، والتفكير التصميمي، والجرأة في ريادة الأعمال.

المراجع:

• Isaac, Mike. No Filter: The Inside Story of Instagram. Simon & Schuster, 2020.

• Business Insider. “The Rise of Kevin Systrom and Instagram.”