قصائد درويش عن الأم

قصائد محمود درويش عن الأم

تُعد قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش من أعمق وأجمل التعبيرات الشعرية التي عبرت عن الحزن والأمل، عن الوطن والحرية، وعن العلاقات الإنسانية الأكثر عمقًا، مثل علاقة الإنسان بأمه. كان درويش واحدًا من الشعراء الذين استطاعوا أن ينسجوا كلمات تمس الوجدان وتثير المشاعر. من بين الموضوعات العديدة التي تناولها في شعره، تأتي الأم كأحد الموضوعات المحورية التي لا يكاد يمر أي ديوان من دواوينه إلا وتظهر فيه صورة الأم، بتفاصيلها ومعانيها الوجدانية الفائقة.

في هذه المقالة، سنتناول كيف جسد محمود درويش صورة الأم في قصائده، وما الذي يجعل هذا الموضوع مهمًا في شعره.

صورة الأم في شعر محمود درويش

لقد اهتم محمود درويش بتناول الأم في سياقين رئيسيين: الأم بمعنى الكائن الذي يعطي الحياة، والأم بمعنى الوطن الأم الذي يرمز إلى الأرض والهوية. هذه الثنائية في تعبيرات درويش عن الأم تُظهر بوضوح تعدد الأبعاد التي تتبناها صورة الأم في قصائده. فإذا كانت الأم في جزء من شعره تجسد الحنان والاحتضان، فإنها في جزء آخر تصبح رمزًا للوطن الذي يحوي الإنسان في أحضانه ويمنحه العيش والهوية.

الأم كرمز للحنان والاحتضان

تظهر الأم في العديد من قصائد محمود درويش كرمز للحنان والاحتضان اللامتناهي. فالشاعر يراها تجسد الرعاية والمأوى، وهي تلك التي تمنح الحياة منذ البداية، وتسهر على راحتنا. في قصيدته الشهيرة “أمي”، يتحدث درويش عن كيف كانت أمه هي النبع الأول لكل عاطفة، وكيف كانت تملأ حياته بالحب والاهتمام الذي لا يعوض. يقول في إحدى الأبيات:

“أمي… يا عطرًا من الزهور، يا أغنية من الشوق، يا صوتًا من الحنان… أبكيك في صمت حين تغيبين.”

هنا نجد أن درويش يضع الأم في مكانة لا يمكن أن يتم استبدالها بأي شيء آخر، فهي مصدر الأمان والعاطفة التي لا يشبع منها الإنسان أبدًا. الأم في هذه القصيدة تمثل الاستمرارية والتواصل الروحي بين الإنسان وأصله، وهي نقطة البداية لكل مشاعر الفقد والحب في نفس الوقت.

الأم كوطن

في جانب آخر، لا يمكن فصل صورة الأم عن مفهوم الوطن في شعر درويش، حيث يتداخل المفهومان في تعبيرات درويش ليجعل الأم رمزًا للوطن الذي يحتضن الإنسان في مأمنه، كما هو الحال مع الأم التي تعتني وتربي. في قصيدته “أحن إلى خبز أمي”، يتحدث درويش عن الوطن كأم تُعطي الحياة للأبناء، ويستعيد في قصيدته تفاصيل الطفولة وذكرياتها المرتبطة بالأم، في صورة وطن يسكن فيه الإنسان ويسكن فيه هو أيضًا. يقول درويش:

“أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وتكبر فيّ الطفولة وتعود.”

هنا، نجد أن الأم لا تقتصر على الأم البيولوجية فقط، بل تتعداها إلى الوطن الأم، أي الأرض التي نشأ فيها الشاعر، وارتبط بها ارتباطًا روحيًا عميقًا. ففي هذه القصيدة، يشير درويش إلى أن فقدان الأم والوطن لا يختلف كثيرًا، فكلاهما يرتبط بذاكرة الإنسان وحياته. يُظهر درويش في هذه القصيدة العاطفة الصادقة التي يحملها لكل لحظة مرت في بلاده، وارتباطه العميق بكل تفاصيلها، بداية من الخبز الذي يخبزه الأم، وصولًا إلى القهوة التي تعدها يوميًا.

الأم والشوق والتضحيات

في قصيدة “أمي على الجبهة”، يتناول درويش صورة الأم بشكل مختلف، حيث يتحدث عن الأم في سياق الكفاح والمقاومة. الأم في هذه القصيدة ليست فقط رمزًا للحنان، بل هي أيضًا رمز للتضحية، حيث يصور الأم كمحاربة تقف بجانب وطنها، بل وتضحي بحياتها من أجل أن يظل الأمل حيًا في نفوس أبنائها. يقول:

“أمي على الجبهة لا تنام، تحرس حلمي وتبكي خوفًا على وطنٍ لا يأتي.”

هنا، يربط درويش بين الأم والوطن من خلال تصوير الأم كجندي في معركة مستمرة، سواء كانت تلك المعركة عبارة عن كفاح يومي ضد قوى الاحتلال، أو معركة من أجل الحفاظ على الأرض والهوية. ومن خلال هذا التصوير، يبين درويش كيف أن المرأة (الأم) في المجتمعات التي تعاني من الاحتلال أو الاضطهاد تتحمل عبئًا ثقيلًا لا يقل عن عبء الرجال في المعركة، وأنها بمثابة الجبهة الداخلية التي لا تهدأ أبدًا، مدفوعةً بحب لا ينضب.

تأثير شعر درويش على صورة الأم

لقد نجح محمود درويش في جعل صورة الأم أكثر من مجرد صورة تقليدية في الشعر العربي، حيث قدمها كمفهوم متداخل بين العاطفة الوطنية والشخصية، بين الحزن والحب، وبين التضحية والأمل. عمل درويش على تحويل الأم من مجرد كائن إنساني محب إلى رمز يجسد الأرض والمستقبل والمقاومة. في قصائده، يبدو وكأن درويش يريد أن يقول إننا عندما نحب أمهاتنا، نحن نحب الأرض والوطن أيضًا، لأن الأم هي الوطن في صورته الأولى.

استمرارية الأم في دواوين درويش

على الرغم من أن محمود درويش كتب في مواضيع كثيرة تتعلق بالقضية الفلسطينية، والحروب، والفقد، والحب، إلا أن صورة الأم كانت دائمًا حاضرة في كل ديوان له، بشكل أو بآخر. ففي ديوانه “لا تعتذر عما فعلت”، نجد أن درويش يربط بين مشاعر الفقد والخوف من الهزيمة وبين صورة الأم التي تحاول دائمًا حماية الأبناء. أما في “محاولة رقم 7”، تتكرر صورة الأم التي تهب الحياة بكل ما فيها من تضحية، وتصبح هذه التضحية رمزية لكفاح الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال.

الختام

يظل محمود درويش من أبرز الشعراء الذين استطاعوا أن يلتقطوا معانٍ عميقة من خلال صورة الأم، ويُظهرها في أبعاد متعددة. سواء كأم بيولوجية تعني الحماية والعاطفة، أو كأم وطنية تحمل كل معاني الكفاح والتضحية. في قصائده، لا تكون الأم مجرد شخصية عابرة، بل هي صورة حية تتمثل في كل جرح وحلم وفقد. من خلال هذه القصائد، استطاع درويش أن يخلد صورة الأم في الذاكرة العربية والعالمية، لتظل مصدر إلهام لأجيال قادمة.