فهم لغة الطفل المبكرة

لغة الطفل.. كيف نفهمها؟

مقدمة

منذ اللحظة الأولى التي يُولد فيها الطفل، يبدأ في التواصل مع العالم من حوله بوسائله الفطرية والبسيطة. هذا التواصل لا يقتصر على الكلمات، بل يتعداها إلى حركات الجسد، تعبيرات الوجه، الإيماءات، نبرة الصوت، البكاء، وحتى الصمت. ما يُعرف بـ “لغة الطفل” هو نظام معقد ومتنوع من الرموز والإشارات التي يُعبّر من خلالها الطفل عن حاجاته، مشاعره، واستجاباته للمثيرات المحيطة به. وفهم هذه اللغة لا يُعد رفاهية تربوية أو مهارة إضافية، بل هو ضرورة أساسية تسهم في بناء علاقة صحية بين الطفل ومقدّمي الرعاية له.

يتطلب فهم لغة الطفل جهداً مشتركاً بين العلم والخبرة، حيث يتداخل علم النفس النمائي، علم اللغة، علم الأعصاب، والسلوك الاجتماعي، لتفسير هذه الإشارات المتنوعة التي تصدر عن الطفل في مراحل عمره المختلفة. ولأن الأطفال لا يمتلكون القدرة اللغوية الكاملة في مراحلهم الأولى، فإنهم يعوّضون ذلك بأنماط من التواصل غير اللفظي، يصبح فهمها ضرورة لتعزيز شعور الطفل بالأمان، والانتماء، والحب.

أولاً: المراحل الأولى من لغة الطفل

تبدأ رحلة التواصل منذ الأسابيع الأولى بعد الولادة، حيث يستخدم الطفل البكاء كوسيلة وحيدة للتعبير. وبمرور الوقت، تتطور أشكال تواصله تدريجياً:

1. البكاء المنظّم: في البداية يكون بكاء الطفل عشوائياً، لكنه ما يلبث أن يتخذ أشكالاً مختلفة حسب الحاجة؛ فبكاء الجوع يختلف عن بكاء الألم أو التعب.

2. التفاعل البصري: في عمر الشهرين يبدأ الطفل في تثبيت النظر على وجوه الأشخاص، خاصة الأم، ويبدأ في تقليد بعض التعابير الوجهية البسيطة، وهو ما يُعرف بالتفاعل العاطفي غير اللفظي.

3. الإصغاء والتأمل: مع بداية الشهر الثالث، يبدأ الطفل في التركيز على الأصوات والاستجابة لها بالتفات الرأس أو الابتسامة، وهو ما يدل على إدراكه الأولي لبيئته السمعية.

4. المناغاة: تبدأ هذه المرحلة في الشهر الرابع أو الخامس، حين يصدر الطفل أصواتاً عشوائية كالبا، دا، ما، وهذه الأصوات تُعد اللبنات الأولى للغة المنطوقة مستقبلاً.

ثانياً: لغة الجسد عند الطفل

لغة الجسد عند الأطفال لا تقل أهمية عن الكلمات، بل إنها في المراحل الأولى تُشكّل الوسيلة الأساسية للتواصل، ومن أبرز مظاهرها:

• الابتسامة الاجتماعية: تظهر عادة في الشهر الثاني أو الثالث، وهي مؤشر على رغبة الطفل في التواصل العاطفي.

• تحريك الأطراف: عند الإثارة أو الفرح، يحرك الطفل ذراعيه وساقيه بشكل نشط.

• التصلب أو التجمد: في حالات الخوف أو الانزعاج، قد يُظهر الطفل سلوكاً يشبه التجمد أو تيبس الجسد.

• الإمساك بالأشياء: يبدأ الطفل بإمساك يد الأم أو الألعاب كتعبير عن الفضول أو الراحة.

هذه الإشارات تحتاج إلى قراءة دقيقة ومتأنية من قبل الوالدين أو المربين، لأنها تمثل مفاتيح مهمة لفهم الطفل من دون أن ينطق بكلمة.

ثالثاً: تطور اللغة المنطوقة ومراحله

اللغة المنطوقة عند الطفل تمر بمراحل محددة تبدأ من الشهر السادس تقريباً، وتمتد حتى سن السادسة، وتتضمن ما يلي:

يتباين تطور اللغة بين الأطفال تبعاً للعوامل الوراثية والبيئية. بيئة غنية باللغة، مثل الحوار الدائم مع الطفل والقراءة له والغناء، تُسرّع من تطور مهاراته اللغوية.

رابعاً: دور البيئة الأسرية في تنمية لغة الطفل

البيئة الأسرية تُشكّل العامل الحاسم في تشكيل لغة الطفل، وتتضمن هذه البيئة عدة عناصر رئيسية:

• الحوار المستمر: يجب على الوالدين الحديث مع الطفل باستمرار حتى قبل أن يبدأ بالكلام، مما يُعزز من مهاراته الإدراكية.

• الاستماع الفعّال: الإنصات لما يقوله الطفل يُشعره بقيمته ويُشجّعه على التعبير بشكل أفضل.

• القراءة اليومية: تعتبر القراءة من أقوى وسائل تنمية اللغة، حيث تُمكن الطفل من اكتساب مفردات جديدة وبناء أنماط لغوية منظمة.

• الابتعاد عن التلفاز والمحتوى السلبي: الجلوس الطويل أمام الشاشات يُضعف من قدرة الطفل على استخدام اللغة ويُقلل من تفاعله الاجتماعي.

خامساً: اضطرابات اللغة والتأخر اللغوي

بعض الأطفال يُعانون من تأخر في تطور اللغة لعدة أسباب، من أبرزها:

• مشكلات في السمع: ضعف السمع يمنع الطفل من التقاط الأصوات وتقليدها.

• أسباب عصبية أو تطورية: مثل اضطرابات طيف التوحد أو التأخر العقلي.

• الحرمان البيئي: غياب التفاعل اللغوي داخل الأسرة أو تعرّض الطفل للعزلة الاجتماعية.

يجب الانتباه لأي علامات قد تدل على تأخر لغوي، مثل عدم إصدار أصوات بحلول الشهر السادس، أو عدم قول كلمات واضحة في سن السنة والنصف، أو عدم تكوين جمل بسيطة في سن الثلاث سنوات. ويُنصح في هذه الحالات بمراجعة اختصاصي النطق أو طبيب الأطفال.

سادساً: الفرق بين لغة الطفل وفهمه للغة

من المهم إدراك أن الطفل قد يفهم كلمات أكثر بكثير مما يستطيع نطقه. فاللغة الاستقبالية (التي يفهمها الطفل) تتطور قبل اللغة التعبيرية (التي يستخدمها الطفل في الحديث). على سبيل المثال، قد يفهم الطفل جملة: “أحضر لعبتك” دون أن يكون قادراً على قولها. وهذا ما يُعرف بالفجوة الطبيعية بين الاستيعاب والإنتاج اللغوي.

سابعاً: أهمية الاستجابة للطفل في تعزيز لغته

أحد المحاور الجوهرية في تنمية لغة الطفل هو استجابة الكبار لما يصدر عنه من إشارات. فحين يبتسم الطفل وترد الأم بالابتسام، أو حين يصدر صوتاً ويقلّده الأب، يشعر الطفل بأن تواصله ذو قيمة، مما يُعزز لديه الرغبة في التفاعل أكثر. هذه التبادلات تُشكّل نواة الحوار وتُشجّع الطفل على المزيد من المحاولة والنمو في المهارات اللغوية والاجتماعية.

ثامناً: التعدد اللغوي وتأثيره على الطفل

في بعض الأسر، يُنشأ الطفل في بيئة متعددة اللغات، مثل التحدث بالعربية في المنزل، وتعلم الإنجليزية أو الفرنسية في الروضة. هذا التعدد لا يُعتبر ضاراً كما يعتقد البعض، بل إنه يُسهم في تعزيز قدرات الطفل العقلية واللغوية، شرط أن يكون التعرض لكل لغة منظّماً ومتكرراً. قد يُلاحظ بعض التأخير المؤقت في الكلام عند الأطفال متعددي اللغات، لكنه يزول تدريجياً مع تقدم العمر.

تاسعاً: التكنولوجيا وتأثيرها على لغة الطفل

بينما تُوفر التكنولوجيا الحديثة بعض التطبيقات التعليمية المفيدة، إلا أن الإفراط في استخدام الشاشات – خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى – قد يؤدي إلى ضعف تطور اللغة. ذلك لأن التواصل الحقيقي بين الإنسان والطفل لا يمكن تعويضه بمحتوى رقمي، مهما كان غنيّاً. لذا تُوصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بتحديد وقت الشاشة للأطفال دون سن الخامسة، والتركيز بدلاً من ذلك على الأنشطة التفاعلية الواقعية.

عاشراً: دور اللعب في تنمية اللغة

اللعب هو الأداة التعليمية الأولى للطفل، ومن خلاله يُطور مفرداته، ويُجرب الحوار، ويُقلّد الأدوار الاجتماعية. الألعاب التي تتضمن التحدث، كدمى الحيوانات أو القصص المصورة، تُحفّز على تطوير اللغة أكثر من الألعاب الصامتة أو الإلكترونية. كما أن اللعب التخيلي يساعد على بناء مهارات الحوار والخيال اللغوي.

خاتمة

فهم لغة الطفل ليس مجرّد محاولة لترجمة أصواته أو تفسير حركاته، بل هو جهد متواصل لإدراك عالمه الداخلي، واحترام خصوصيته النمائية، وبناء جسر من التواصل الصادق والداعم. عندما نُتقن هذه المهارة، نُساهم ليس فقط في بناء لغته، بل في تشكيل شخصيته، تعزيز ثقته بنفسه، وإرساء أسس متينة لتطوره العقلي والاجتماعي والعاطفي.

المراجع:

1. Berk, L. E. (2013). Child Development. Pearson Education.

2. American Academy of Pediatrics. (2020). Media and Young Minds.