فضل سورة الحشر وفضائلها

فضل سورة الحشر

تُعد سورة الحشر من السور المدنية التي نزلت على النبي محمد ﷺ بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وتشتمل على أربعٍ وعشرين آية. وقد سُمّيت بهذا الاسم لورود لفظ “الحشر” في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾، إشارة إلى إجلاء بني النضير من المدينة. وتمتاز هذه السورة بثراء معانيها وتعدد موضوعاتها التي تجمع بين العقيدة والتاريخ والتوجيه الأخلاقي، وقد ورد في فضلها أحاديث وآثار تؤكد مكانتها الرفيعة بين سور القرآن الكريم.

التمهيد العقائدي في السورة

تبدأ سورة الحشر بتسبيح لله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وهو افتتاح ينم عن الجو الإيماني الذي تسوده السورة، حيث تستفتح بتقديس الخالق وبيان عظمته وسلطانه على جميع المخلوقات. وهذا الاستهلال يتكرر في سور أخرى تُعرف بسور “المُسبّحات”، مما يدل على ارتباط التسبيح بتقرير أصول العقيدة، كالربوبية والألوهية والقدرة المطلقة.

في هذا السياق، تسوق السورة أسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة في خواتيمها، ومنها: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، وغيرها. وهذا العرض الإلهي يرسّخ في النفوس عظمة الله وكمال صفاته، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع السورة المركزي، وهو بيان قدرة الله في إظهار الحق وانتصاره وتدبيره لأمور الخلق.

عرض تاريخي لإجلاء بني النضير

تتناول السورة بالتفصيل واقعة إجلاء يهود بني النضير عن المدينة المنورة، بعد أن نقضوا العهد مع النبي ﷺ وتآمروا عليه، فأحاط بهم المسلمون حتى استسلموا، وأُجبروا على الخروج تاركين خلفهم أموالهم وديارهم. وقد وصفت الآيات هذا الحدث وصفًا دقيقًا، مركّزة على أن الإخراج لم يكن من فعل المسلمين فحسب، بل كان تدبيرًا إلهيًا مباشرًا: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا…﴾، وقد وصفت السورة مشهدهم وهم يجلون من ديارهم: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا…﴾، وهذا تأكيد على أن السنن الإلهية تجري وفق حكمته، وأن الباطل مهما بدا متماسكًا، فإن مصيره الزوال.

هذا العرض يُعدّ ذا قيمة تاريخية وتربوية كبرى، حيث يعكس نموذجًا واقعيًا لنهاية التمرد والخيانة، كما يُظهر حكمة القيادة النبوية في إدارة الأزمات، ويفتح المجال لتأمل سنة التدافع بين الحق والباطل.

بيان نظام الغنائم وتوزيعها العادل

تتناول السورة في ثناياها نظام توزيع الفيء – وهو نوع خاص من الغنائم لم تُؤخذ عن طريق الحرب – والذي حصل عليه المسلمون من بني النضير دون قتال مباشر. وقد بينت الآيات أن هذا الفيء يُقسَّم وفق توجيهات شرعية دقيقة: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ…﴾.

وقد قررت هذه الآيات قاعدة مهمة، وهي أن الغنائم التي لم يبذل فيها المسلمون جهدًا عسكريًا مباشرًا لا توزع كالأنفال، بل توظف في خدمة المصالح العامة: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ…﴾، ثم ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ…﴾، ثم عمّت الفئات المستفيدة لتشمل كل من جاء من بعدهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ…﴾، مما يدل على اتساع دائرة النفع العام وتشجيع التراحم والتكافل الاجتماعي.

جدول توزيع الفيء وفق سورة الحشر:

الدروس الأخلاقية والاجتماعية

سورة الحشر لا تقف عند التاريخ والاقتصاد الإسلامي فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى توجيهات أخلاقية عظيمة، ففي قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا…﴾ دعوة إلى التراحم بين أجيال الأمة، واستمرار سلسلة الدعاء بالمغفرة والتسامح، وربط الأمة عبر الزمان بمشاعر الإخاء والتواصل الروحي.

كذلك ترد السورة على المنافقين الذين تواطؤوا مع بني النضير في الخفاء، وتوهموا قدرتهم على حماية اليهود، فجاءت الآيات تكشف نفاقهم وتوضح أن تلك الوعود لم تكن إلا خيانة وضعفًا، وأن تحالفاتهم تنهار عند أول اختبار: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ…﴾.

هذا المقطع يبرز أن السورة ترسم خريطة أخلاقية واضحة في التعامل مع الأعداء والمنافقين، وتنبه إلى خطورة الغدر وتحذر من الثقة بمن لا يؤمنون بعقيدة الأمة.

تصوير بليغ لمكانة القرآن في النفوس

من أبرز ما ورد في السورة قوله تعالى:

﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا﴾، وهي آية عظيمة تمثل ذروة التصوير البلاغي للرهبة التي يحدثها القرآن الكريم، حيث تُشبَّه القلوب الصلبة بالجبال، فلو أن هذه الجبال تلقت آيات الله لخشعت وانكسرت، فكيف بقلوب البشر؟ هذا التصوير يُبرز أثر القرآن على النفوس المؤمنة، ويؤكد أنه كتاب الهداية والتغيير.

وهذه الآية توجّه رسالة خفية إلى الغافلين، بأن المانع من خشية الله ليس من ضعف في القرآن، بل من قسوة القلوب، وتفتح الباب واسعًا للتدبر والتأمل، وهو مقصد محوري من مقاصد السورة.

أسماء الله الحسنى وخواتيم السورة

تُعد خاتمة سورة الحشر من أبهى الخواتيم القرآنية، إذ تسرد أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة التي تعبّر عن كماله وجلاله، وتدعو القارئ إلى التأمل فيها، ومنها قوله تعالى:

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…﴾، ثم تأتي أسماء: الملك، القدوس، السلام… إلى آخر السرد.

وقد ورد في فضائل هذه الآيات أن النبي ﷺ كان يقرؤها عند نومه، كما جاء في حديث الترمذي: “من قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر في ليلة كُتب له قيام ليلة”.

هذا يربط السورة بالحياة اليومية للمؤمن، ويجعلها مفتاحًا للعبادة واليقين بالله وصفاته، ويبرز أهمية التسبيح والاعتراف بعلو الله في تهذيب النفس وتقويم السلوك.

فضل سورة الحشر في السنة النبوية والآثار

ورد في بعض الأحاديث والآثار النبوية ما يدل على عظم فضل سورة الحشر وخاصّة خواتيمها، ومن ذلك:

• ما رُوي عن النبي ﷺ: “من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وُكّل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي…” [رواه الترمذي].

• وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “كل اسم من أسماء الله في هذه الآيات له أثر خاص على القلب، فمن تدبرها عرف الله حق المعرفة”.

• كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتأملون في معاني السورة، ويوقرونها لما تتضمنه من عبر وأحكام وأسماء لله تعالى.

المقاصد الكلية لسورة الحشر

يمكن تلخيص المقاصد العامة لسورة الحشر في النقاط التالية:

1. إثبات قدرة الله تعالى وسلطانه الكامل في الكون من خلال التسبيح العام للمخلوقات.

2. تقرير سنة الله في تدبير الصراع بين الحق والباطل كما في قصة بني النضير.

3. تنظيم أحكام الفيء والغنائم وتوزيع الثروات على أسس شرعية عادلة.

4. كشف نفاق المنافقين وتحذير المؤمنين من التبعية لهم.

5. غرس مبادئ الإخاء بين أفراد الأمة بمختلف أجيالها.

6. الدعوة إلى تدبر القرآن وخشيته واستحضار عظمة كلام الله.

7. تأمل صفات الله وأسمائه الحسنى ودورها في ترسيخ الإيمان في القلوب.

خاتمة تأملية

سورة الحشر ليست مجرد تسجيل تاريخي لأحداث معينة، وإنما هي مدرسة إيمانية متكاملة، تجمع بين العقيدة والسلوك، وبين التاريخ والتشريع، وبين التربية الفردية والتنظيم الاجتماعي. وقد جمعت بين قوة الحجة القرآنية، وبلاغة التصوير، وعمق التوجيه الأخلاقي.

تدعونا سورة الحشر إلى التأمل في سنة الله في الأمم، والتسليم له في الأمر، وتحقيق الخشوع والخضوع عند قراءة كتابه، وتجديد العهد بالتقوى والطاعة، وتثبيت القلوب على معاني أسماء الله وصفاته، مما يجعلها من أعظم السور التي تُورث في النفس روح الطمأنينة واليقين والثبات على الحق.

المراجع:

1. تفسير الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.

2. تفسير ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي.