فضل تقبيل الحجر الأسود

فضل تقبيل الحجر الأسود

يُعدُّ الحجر الأسود أحد أبرز الشعائر العظيمة التي تتعلق بالكعبة المشرفة، وقد وردت في فضله وخصوصيته نصوص كثيرة من السنة النبوية الشريفة، ما جعله يحتل مكانة عظيمة في قلوب المسلمين عبر القرون. إن تقبيل الحجر الأسود هو سنة ثابتة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عمل تعبدي يرمز إلى طاعة الله والاقتداء برسوله الكريم، ويُعدّ أحد مظاهر تعظيم شعائر الله، التي هي من تقوى القلوب، كما ورد في قوله تعالى: “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ” [الحج: 32].

أولاً: تعريف الحجر الأسود ومكانته

الحجر الأسود هو حجر بيضاوي الشكل مائل إلى السواد، قطره حوالي 30 سم، موضوع في الركن الشرقي الجنوبي من الكعبة المشرفة، يُعرف بـ “الركن الأسود” أو “الركن اليماني الشرقي”. وهو بداية الطواف ونهايته، ويُعد من المعالم الأساسية التي يبدأ بها الحاج أو المعتمر طوافه حول الكعبة، إذ أن الطواف لا يُحسب صحيحاً ما لم يبدأ من عند الحجر الأسود.

وقد ورد في الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: “نزل الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم” [رواه الترمذي وأحمد]. مما يدل على أصله الجَناني، وعلى رمزيته في العلاقة بين السماء والأرض، والمغفرة والذنوب.

ثانياً: السنة النبوية في تقبيل الحجر الأسود

من الثابت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بدأ الطواف بالكعبة، استلم الحجر الأسود وقبّله، إن تيسر له ذلك من غير إيذاء للناس. جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: “رأيت رسول الله ﷺ إذا طاف في البيت استلم الركن في كل طوفة، وفي رواية: استلم الركنَين اليمانيين” [رواه البخاري ومسلم].

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل الحجر بنفسه، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك” [رواه البخاري ومسلم]. وفي هذا الحديث دلالة عظيمة على أن تقبيل الحجر الأسود إنما هو تعبد واتباع، وليس تقديساً للأحجار، وإنما تعظيم لأمر الله وسنة نبيه.

ثالثاً: الحكمة من تقبيل الحجر الأسود

من الناحية العقدية، يُعد تقبيل الحجر الأسود من قبيل الامتثال لأوامر الله تعالى والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يثبت أن الحجر له أي قدرة على النفع أو الضر، وإنما النية في التقبيل هي طاعة واتباع محض. ولذا قال الإمام النووي في “شرح صحيح مسلم”: “فيه بيان شرف الحجر الأسود، وفضيلته، وحرمة استلامه وتقبيله، وأنه سنة، وهو أولى من غيره من أركان الكعبة.”

أما من الناحية الرمزية، فإن تقبيل الحجر الأسود يُمثّل تجديداً للعهد مع الله عز وجل، ويُعبر عن رغبة المسلم في التكفير عن الذنوب، كما أن تقبيله يرمز إلى الخضوع والتسليم لأمر الله، إذ يقبل المؤمن حجراً لا يُعقل له نفعٌ أو ضرّ، وإنما يُقبل امتثالاً لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من مظاهر كمال الإيمان.

رابعاً: مشروعية استلام الحجر الأسود بغير التقبيل

مع كثرة الحجاج والمعتمرين في هذا الزمان، قد يتعذر على الكثيرين تقبيل الحجر الأسود مباشرة بسبب الزحام الشديد، ولذا شُرع لمن لم يتمكن من التقبيل أن يستلم الحجر بيده ثم يُقبل يده، فإن لم يستطع استلمه بشيء في يده، فإن لم يستطع أشار إليه بيده من بعيد دون تقبيل. وهذا كله دلالة على سماحة الإسلام، وتيسيره على المسلمين.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف بالبيت وهو على بعيره، وكان يُشير إلى الحجر الأسود بعصاه كلما مرّ به، مما يدل على مشروعية الإشارة عند عدم القدرة على التقبيل.

خامساً: أثر تقبيل الحجر الأسود على النفس والروح

الروحانية المرتبطة بتقبيل الحجر الأسود عميقة ومؤثرة في قلب المسلم، فمن يقف أمام الكعبة ويُقبّل الحجر الأسود، يشعر بالخضوع والخشوع والانكسار لله عز وجل، وكأنه يُجدد عهده بالطاعة، ويُظهر التوبة والرجوع إليه، خاصة إذا علم أن هذا الحجر قد نزل من الجنة، وكان أبيض ناصعاً، ثم سودته خطايا البشر، مما يُشعر المسلم بعِظم الذنب، وعِظم أثر التوبة.

كما أن هذا الفعل يُمثل اتصالاً مباشراً بين الزمان والمكان، حيث أن المسلم في هذا الموضع يُمارس ذات الفعل الذي مارسه النبي ﷺ وأصحابه، مما يعزز في النفس مشاعر الانتماء للأمة، والإيمان بوحدة الطريق والعبادة.

سادساً: المكانة التاريخية للحجر الأسود

منذ الجاهلية وحتى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كان الحجر الأسود موضع تعظيم بين أهل مكة، إلا أن تعظيمهم له كان دون وعي أو فهم ديني، حتى جاء الإسلام فوضع له الإطار الشرعي، فجعل تعظيمه من تعظيم شعائر الله، ورتب عليه من السنن ما يُظهر اتّباع النبي دون غلو أو ابتداع.

وقد شهد الحجر الأسود أحداثاً تاريخية مهمة، من أبرزها قصة التحكيم الشهيرة حينما أرادت قبائل قريش تجديد بناء الكعبة، واختلفوا فيمن يضع الحجر في مكانه، فاحتكموا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فحلّ النزاع بحكمة حين دعا بقطعة قماش، ووضع الحجر عليها، وجعل رؤساء القبائل يمسكون بالأطراف، ثم وضعه هو بيده في مكانه، مما أكسبه احتراماً كبيراً في مكة.

سابعاً: أقوال العلماء في فضل تقبيل الحجر الأسود

اتفقت كلمة العلماء على أن تقبيل الحجر الأسود سُنّة مؤكدة، وتُعدّ من الشعائر العظيمة في الطواف، ولكنها لا تصل إلى درجة الوجوب، ولا يُلحق تركها نقصاً في الطواف، لا سيما عند العجز. فقد قال الإمام الشافعي في “الأم”: “تقبيل الحجر سنة، لا يجب على من طاف أن يُقبّله إن لم يمكنه”. وقال الإمام مالك: “لا بأس بأن يُستلم الحجر أو يُشار إليه ولا يُقبّل إن كان فيه زحام”.

وقد أكّد الإمام النووي أن في تقبيل الحجر الأسود فضل عظيم، ومن التيسير عدم اشتراطه في صحة الطواف، بل هو سنة، فإن تعذر، فلا حرج.

ثامناً: الحجر الأسود في ضوء العقيدة الصحيحة

يُعدّ التقبيل فعلاً تعبدياً خالصاً، بعيداً عن أي نوع من أنواع الشرك أو الغلو. وهذا ما أشار إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال مقولته المشهورة عند تقبيله الحجر: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يُقبلك ما قبلتك”، دلالة على أن الفعل محض اتباع، لا تقديس للحجر في ذاته.

ويُعدّ هذا التوازن بين تعظيم الشعيرة والتبرؤ من الشرك أمرًا عظيمًا في العقيدة الإسلامية، إذ يعلم المسلم أن جميع المخلوقات لا تنفع ولا تضر بذاتها، وإنما الأمر كله لله، وهو وحده المستحق للعبادة.

جدول يوضح درجات استلام الحجر الأسود عند الطواف حسب القدرة

الخاتمة: منزلة الحجر الأسود في قلوب المسلمين

لقد احتل الحجر الأسود مكانة راسخة في وجدان المسلمين على مر العصور، ليس بوصفه حجراً ذا طاقة أو سر، وإنما بوصفه رمزًا إيمانيًا، وشعيرة من شعائر الله، يرتبط بها العبد استجابة لأمر الله، واقتداء بسنة رسول الله ﷺ. إن تقبيل الحجر الأسود لا يُمثل عبادة للحجر، وإنما يُمثل طاعة لله، واتباعًا صادقًا لمنهج النبي، وإحياءً لسنة خالدة لا تزال تُمارَس في بيت الله الحرام، حيث تتلاقى الأرواح في أعظم مكان وأقدس زمان. وقد كان ولا يزال هذا الحجر الشريف شاهداً على أمة التوحيد، وعلى صدق من أتى إليه يطلب المغفرة والنقاء والطهارة، فيجدد عهده، ويخرج من بيت الله بقلوب بيضاء، كما يُروى عن الحجر أنه يشهد يوم القيامة لمن قبّله بحق.