فخر المتنبي بين الحكمة والغرور

حكم المتنبي عن الفخر

كان الشاعر العربي الكبير المتنبي واحدًا من أبرز الشخصيات التي أضافت إلى الأدب العربي ثروة ضخمة من الحكمة والفلسفة الشعرية. فقد اتسمت أشعاره بعمق التفكير، وسعة المعرفة، وفهمه العميق لأبعاد النفس البشرية. ومن أبرز الموضوعات التي تناولها المتنبي في شعره هو الفخر، والذي عبر من خلاله عن رؤيته الخاصة لهذا المفهوم، ورأيه في الشخص الذي يتفاخر بمكانته أو بإنجازاته.

مفهوم الفخر في شعر المتنبي

الفخر، بمفهومه البسيط، هو الاعتزاز بالنفس أو بالمكانة الاجتماعية أو بالإنجازات التي حققها الفرد. ومع ذلك، فقد تناول المتنبي هذا الموضوع من زاوية فلسفية متعمقة، حيث رأى أن الفخر قد يكون سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة قد يكون دافعًا للإبداع والتفوق، ومن جهة أخرى قد يؤدي إلى الانغلاق على الذات، والانغماس في الكبرياء الذي يضيع الإنسان في متاهات الغرور.

يعتبر المتنبي أن الفخر في أصله ليس مذمومًا إذا كان نابعًا من عقل واعٍ وإدراك عميق للقدرات. لكنه كان حريصًا على أن يبين الفرق بين الفخر الناتج عن الفعل والإبداع، وبين الفخر الفارغ المبني على التفوق على الآخرين من دون إنجاز حقيقي. في العديد من أبياته، يظهر المتنبي هذا الصراع الداخلي بين الفخر الحقيقي المبني على العمل الجاد، والفخر المبالغ فيه والمبني على أوهام الذات.

الفخر بالمكانة والمجد

إن المتنبي يرى أن الفخر بالمكانة والجاه، على الرغم من كونه شيئًا طبيعيًا، إلا أن ذلك يجب أن لا يكون هدفًا بذاته، بل يجب أن يكون نتيجة للقدرة على تحقيق الأهداف والتفوق في ميادين الحياة المختلفة. في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:

“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارهُ”

يُبرز المتنبي في هذه الأبيات فكرة أن العزيمة والطموح هما من يجعلان الفخر مشروعًا وذو قيمة. في نظره، الفخر يأتي من العمل الجاد والإصرار على التفوق، ومن ثم فإن الشخص الذي يفاخر لا يكون مذمومًا إذا كان فخره نابِعًا من سعيه الدؤوب لتحقيق الأفضل.

إلى جانب ذلك، كان المتنبي يُقدّر الفخر الذي ينبع من عظمة الأفعال، فالفخر بالمجد يظل مشروعًا طالما كان مؤسسًا على تفوق حقيقي. في قوله:

“وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسامُ”

هنا، نجد أن المتنبي يُعطي معنى آخر للفخر، حيث يعبر عن التقدير للأشخاص الذين يتسمون بعظمة النفس والعقل، ويشعرون بالفخر نتيجة لسموهم الداخلي الذي ينعكس في أفعالهم.

الفخر المُبالغ فيه والغرور

من ناحية أخرى، كانت هناك بعض الأبيات التي يظهر فيها المتنبي انتقاده للفخر الزائف الذي ينبع من غرور الشخص وتعاليه على الآخرين دون أن يكون لديه أي إنجاز حقيقي. يشير المتنبي هنا إلى أن الشخص الذي يتفاخر بمكانته دون أن يكون لديه ما يثبت استحقاقه لذلك هو شخص فارغ لا قيمة حقيقية له. في هذا الصدد، كتب المتنبي في قصيدته:

“وما الفخرُ إلا لأهلِ العلمِ إنهم *** على الهدى لمن سواهمُ أعدلُ”

من خلال هذه الأبيات، يعبر المتنبي عن فكرة أن الفخر يجب أن يُبنى على العلم والفكر، ولا ينبغي أن يُنسب إلى الأشخاص الذين ليس لديهم شيء ملموس يقدمونه للمجتمع. فهذا النوع من الفخر يكون بمثابة خداع للذات ويعتبر من التفاخر المذموم.

فخر الشاعر بنفسه

كان المتنبي يعتبر نفسه واحدًا من أعظم الشعراء في عصره، بل في تاريخ الأدب العربي كله. وبذلك كان يفاخر بشعره، ليس من باب الغرور الفارغ، ولكن من باب الاعتزاز بقدرته على التأثير وإيصال أفكاره للعالم. كان يرى أن شعرياته هي ما يجعل له مكانة خاصة في قلب الأدب العربي.

في قصيدته الشهيرة “إذا غامَرتَ في شرفٍ مرومِ”، نجد أن المتنبي يعبر عن فخره بشعره وبمواقفه في الحياة. حيث كان يتفاخر بعزمه ورؤيته التي لا يهاب منها أي صعاب. وكان المتنبي في العديد من أبياته يعبّر عن اعتزازه بقدرته على تحدي الصعاب، وعدم الرضا بالقليل من الإنجازات. بل كان يسعى دائمًا إلى الوصول إلى أعلى الدرجات في العلم والشرف.

الفخر في مواجهة الأعداء

كان المتنبي في العديد من قصائده يُظهر فخره بنفسه في مواجهة الأعداء، سواء كانوا أعداء حقيقيين في ساحة المعركة أو أعداء معنويين، مثل الحاسدين أو الذين يحاولون التقليل من شأنه. كان يرى أن الفخر هو من يجعله يتقدم في الحياة بكل ثقة، فهو ليس فخرًا بالذات فحسب، بل فخر بالقدرة على الانتصار على الأعداء، سواء كانوا أعداء في الحرب أو في الفكر.

كان يقول في أحد أبياته:

“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارهُ”

هنا يوضح المتنبي أن عزمه هو الذي يحدد قيمته في مواجهة الأعداء. وإن الشخص الذي يمتلك عزيمة وإصرارًا لا يمكن لأي عدو أن يقف في طريقه، وأن فخره ينبع من هذا العزم الذي لا يتزعزع.

الفخر في السياق الشخصي

بصرف النظر عن الفخر الاجتماعي والمجتمعي، كان المتنبي يحمل فخرًا عميقًا تجاه نفسه، وهو نوع من الفخر الذاتي الذي ينبع من تحقيق الذات والاعتراف بقدراته الشخصية. كان يعتقد أن الإنسان لا بد أن يكون فخورًا بذاته أولًا، لأن ذلك يعزز ثقته بنفسه ويجعله قادرًا على التغلب على التحديات.

ويمكن اعتبار المتنبي شاعرًا فخورًا بشخصه، لكنه في نفس الوقت كان حريصًا على أن يكون فخره مستحقًا، مبنيًا على قدراته الفعلية، لا على أوهام أو تقدير الذات المبالغ فيه.

خلاصة

إن حكم المتنبي عن الفخر تتمحور حول التفريق بين الفخر المشروع، المبني على القدرة والعمل الجاد، والفخر الزائف الذي ينبع من الغرور والتفاخر دون أساس. كان المتنبي يرى أن الفخر لا يكون فخرًا حقيقيًا إلا عندما يكون نابِعًا من مكانة حقيقية أو من سعي مستمر نحو التفوق. وبذلك، يُمكننا أن نعتبر المتنبي شاعرًا قدَّم لنا درسًا مهمًا في كيفية التعامل مع الفخر، وجعلنا نفهم أن الفخر لا يكون مباحًا إلا عندما يكون مبنيًا على شيء حقيقي وملموس، سواء كان ذلك في المجال الفكري أو الاجتماعي أو الشخصي.