الخدمة الاجتماعية الغائبة: رؤية تحليلية شاملة لأسباب غياب وتأثير الخدمة الاجتماعية في المجتمعات العربية

تُعد الخدمة الاجتماعية من الركائز الأساسية التي تُسهم في بناء المجتمعات وتطويرها، وهي مهنة إنسانية تهدف إلى تحسين جودة حياة الأفراد والجماعات، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والحد من الظواهر السلبية التي تؤثر على استقرار المجتمع. ومع ذلك، فإن واقع الخدمة الاجتماعية في العديد من المجتمعات العربية يعكس حالة من الغياب أو التهميش، سواء على مستوى التوظيف، أو التشريع، أو الوعي المجتمعي بدورها الحيوي. هذا المقال يقدم تحليلاً عميقاً لأسباب غياب الخدمة الاجتماعية وتأثير ذلك على المجتمعات، بالإضافة إلى ضرورة إعادة الاعتبار لهذه المهنة النبيلة من أجل تنمية شاملة ومستدامة.

مفهوم الخدمة الاجتماعية وأهدافها

الخدمة الاجتماعية هي مهنة إنسانية تستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وتهدف إلى دعم الأفراد والأسر والمجتمعات في مواجهة المشكلات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي، وتوفير الحلول التي تسهم في تمكين الفئات الضعيفة والهشة.

تتجسد أهداف الخدمة الاجتماعية في:

• تعزيز التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

• الحد من الفقر والتشرد والعنف الأسري.

• دعم ذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والأطفال.

• تعزيز الصحة النفسية والوعي الاجتماعي.

• تمكين الأفراد من المشاركة الفاعلة في التنمية المجتمعية.

مظاهر غياب الخدمة الاجتماعية في المجتمعات العربية

يلاحظ في العديد من الدول العربية تراجع دور الخدمة الاجتماعية أو غيابها بشكل شبه كامل، ويتضح هذا في عدة مظاهر، منها:

1. ضعف المؤسسات الاجتماعية وتراجع دورها

تعاني الكثير من المؤسسات الاجتماعية الحكومية وغير الحكومية من ضعف في الأداء، نتيجة نقص الكوادر المتخصصة في الخدمة الاجتماعية، أو ضعف الدعم المالي والإداري. هذا النقص يؤدي إلى عدم تقديم خدمات فعالة أو استباقية، مما يجعل الكثير من الفئات الاجتماعية مهمشة ومهمومة.

2. نقص الكوادر المهنية المتخصصة

تعتبر ندرة العاملين في مجال الخدمة الاجتماعية من العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى غياب الدور الفاعل لهذه المهنة. حيث يفتقر السوق إلى الكفاءات المدربة التي تمتلك مهارات التعامل مع المشكلات الاجتماعية المعقدة، بسبب ضعف الاهتمام بالتعليم والتدريب المهني في هذا المجال.

3. قلة الوعي المجتمعي بأهمية الخدمة الاجتماعية

تفتقر المجتمعات إلى الوعي الكافي حول أهمية الخدمة الاجتماعية، إذ يُنظر إلى المهنة على أنها عمل إداري أو خيري تقليدي، وليس كمهنة متخصصة ومؤثرة في صياغة سياسات اجتماعية تنموية. هذا الأمر يؤدي إلى التقليل من شأن دور العاملين في هذا المجال، وصعوبة الحصول على الدعم المجتمعي.

4. غياب التشريعات والسياسات الداعمة

تعاني بعض الدول من ضعف التشريعات التي تنظم عمل الخدمة الاجتماعية، ما يحد من قدرة العاملين على تنفيذ مهامهم، ويجعل دورهم شكلياً أو عرضة للتجاهل من قبل مؤسسات الدولة.

5. ضعف التكامل بين القطاعات المختلفة

يُلاحظ ضعف التنسيق والتكامل بين قطاعات الصحة والتعليم والعمل والتنمية الاجتماعية، مما يحد من قدرة الخدمة الاجتماعية على تحقيق أهدافها المتعددة، ويجعل تدخلاتها محدودة التأثير.

الأسباب الجوهرية وراء غياب الخدمة الاجتماعية

يمكن تصنيف الأسباب التي أدت إلى غياب الخدمة الاجتماعية في المجتمعات العربية إلى أسباب هيكلية وثقافية وتنظيمية، نعرضها بالتفصيل:

الأسباب الهيكلية

• ضعف البنية التحتية للمؤسسات الاجتماعية: حيث تفتقر الدول إلى مؤسسات متخصصة مجهزة تجهيزا كاملا، تمتلك الموارد البشرية والمادية اللازمة.

• تخصيص ميزانيات منخفضة: تضع الحكومات ميزانيات محدودة للقطاع الاجتماعي، ما ينعكس سلباً على جودة الخدمات.

• غياب التخطيط الاستراتيجي: ضعف وضع خطط تنموية واضحة ومدعومة بمؤشرات قياس أداء للخدمة الاجتماعية.

الأسباب الثقافية

• النظرة التقليدية للمهنة: يربط المجتمع الخدمة الاجتماعية بالعمل الخيري أو التطوعي فقط، مما يقلل من اعتبارها مهنة علمية قائمة على دراسات متخصصة.

• وصمة العار المرتبطة بالمشاكل الاجتماعية: حيث يخشى الأفراد الاعتراف بالمشكلات التي تواجههم، كالإدمان أو العنف الأسري، ما يصعب من مهمة الخدمة الاجتماعية.

• قلة مشاركة المرأة: نظراً لدور المرأة المهم في الخدمة الاجتماعية، فإن التقاليد المجتمعية التي تحد من نشاط المرأة تقلل من عدد العاملين المؤهلين في هذا المجال.

الأسباب التنظيمية والإدارية

• عدم وجود تشريعات واضحة: خاصة التي تعزز حقوق الأفراد في الحصول على الخدمات الاجتماعية، وتحمي حقوق العاملين في المجال.

• ضعف التدريب المستمر: نقص فرص التطوير المهني والتدريب، مما يؤدي إلى تدني مستوى الأداء.

• غياب القيادات الفاعلة: ضعف وجود قيادات مؤثرة قادرة على دفع عجلة الخدمة الاجتماعية داخل المؤسسات.

تأثير غياب الخدمة الاجتماعية على المجتمعات

يؤدي غياب أو ضعف الخدمة الاجتماعية إلى تفاقم العديد من المشكلات المجتمعية، منها:

زيادة معدلات الفقر والتشرد

بدون دعم اجتماعي فعال، تزداد نسبة الفقراء والمشردين الذين يعانون من انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي، ما يزيد من معدلات الجريمة والعنف.

تفاقم العنف الأسري والاجتماعي

غياب المساندة الاجتماعية يؤدي إلى زيادة حالات العنف ضد الأطفال والنساء، وانتشار المشكلات النفسية والعاطفية، مما ينعكس سلباً على سلامة الأسرة والمجتمع.

انتشار المشكلات النفسية والاجتماعية

نقص الدعم النفسي والاجتماعي يؤدي إلى تفاقم حالات الاكتئاب، والقلق، واضطرابات السلوك، خاصة في الفئات الهشة مثل الشباب والأطفال.

ضعف التنمية الاجتماعية المستدامة

دون تدخل اجتماعي متكامل، يصعب تحقيق التنمية التي تراعي الإنسان واحتياجاته، مما يجعل خطط التنمية الاقتصادية غير فعالة وغير شاملة.

أدوار الخدمة الاجتماعية المحورية في تحقيق التنمية

الخدمة الاجتماعية ليست مجرد مهنة إنسانية بل هي أداة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، من خلال أدوار متعددة:

• تمكين الفئات الضعيفة: تقديم الدعم لتطوير القدرات الذاتية، وإتاحة فرص التعليم والعمل.

• التوعية والتثقيف الاجتماعي: رفع الوعي بالقضايا الصحية والنفسية والاجتماعية.

• الوساطة وحل النزاعات: المساعدة في حل المشكلات الأسرية والمجتمعية عبر تدخلات مهنية.

• دعم السياسات الاجتماعية: المشاركة في صياغة سياسات تحمي حقوق المواطنين وتعزز العدالة الاجتماعية.

• الرصد والتقييم: تحليل المشكلات الاجتماعية وتقديم تقارير ميدانية دقيقة للمسؤولين.

مقترحات لتعزيز حضور الخدمة الاجتماعية في المجتمعات العربية

يمكن العمل على مجموعة من الإجراءات لتعزيز دور الخدمة الاجتماعية والحد من غيابها، ومنها:

تطوير التعليم والتدريب المهني

• تأسيس برامج أكاديمية متخصصة في الخدمة الاجتماعية في الجامعات.

• توفير برامج تدريب عملي وميداني للطلاب لتجهيزهم لمواجهة التحديات الحقيقية.

دعم المؤسسات الاجتماعية

• زيادة التمويل الحكومي للمؤسسات الاجتماعية.

• تطوير البنية التحتية وتجهيز المراكز الاجتماعية بأحدث الوسائل.

تشريع وتنظيم المهنة

• سن قوانين تحمي حقوق العاملين في الخدمة الاجتماعية وتنظم عملهم.

• وضع آليات للترخيص والتسجيل المهني.

رفع الوعي المجتمعي

• إطلاق حملات إعلامية لتعريف المجتمع بدور الخدمة الاجتماعية وأهميتها.

• تشجيع المشاركة المجتمعية في دعم الفئات المحتاجة.

تعزيز التكامل بين القطاعات

• بناء شبكات تعاون بين الصحة والتعليم والعمل والتنمية الاجتماعية.

• استخدام التكنولوجيا لتحسين خدمات الدعم الاجتماعي.

جدول يوضح أبرز أسباب غياب الخدمة الاجتماعية وتأثيراتها

خلاصة

الخدمة الاجتماعية الغائبة ليست مجرد مشكلة مهنية أو مؤسسية، بل هي أزمة اجتماعية تنعكس سلباً على جميع نواحي الحياة في المجتمعات العربية. إن إعادة الاعتبار لهذه المهنة ودمجها كركيزة أساسية في خطط التنمية الوطنية هو أمر ضروري لا يمكن تجاهله. تحتاج الخدمة الاجتماعية إلى دعم شامل يبدأ من التعليم والتدريب، مروراً بالتشريع والتنظيم، وانتهاءً بزيادة الوعي المجتمعي، حتى تتمكن من القيام بدورها الحقيقي في بناء مجتمع متماسك وقادر على مواجهة تحديات العصر. دعم الخدمة الاجتماعية يعني دعم الإنسان، وهو الهدف الأسمى لأي مجتمع يسعى إلى الازدهار والاستقرار.

المصادر والمراجع

1. صالح، أحمد محمد، “مبادئ الخدمة الاجتماعية”، دار الفكر العربي، 2018.

2. العلي، مريم، “دور الخدمة الاجتماعية في التنمية المجتمعية”، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد 22، 2021.