سبب تسمية غزوة تبوك بغزوة العسرة
تعتبر غزوة تبوك من أبرز الغزوات التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة، وقد حظيت بأهمية خاصة في تاريخ الإسلام لما تحمله من دلالات تربوية وعسكرية، وما واجه المسلمون فيها من صعوبات. من بين الأمور التي أثارت انتباه المؤرخين وعلماء السيرة النبوية، هي تسمية هذه الغزوة بـ “غزوة العسرة”. فما هو سبب هذه التسمية؟ وما الذي يجعل هذه الغزوة تحمل هذا الاسم؟ في هذا المقال، سنتناول أسباب هذه التسمية بالتفصيل، وسنسلط الضوء على الظروف التي رافقت الغزوة وكيف أثرت في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام.
مفهوم العسرة في لغة القرآن والسنة
قبل الخوض في تفاصيل غزوة تبوك وأسباب تسميتها، من المفيد أن نتعرف على معنى “العسرة” في اللغة العربية وفي القرآن الكريم والسنة النبوية.
كلمة “العسرة” في اللغة العربية تعني الشدة والمشقة، وهي مأخوذة من أصل عربي يشير إلى الوضع الصعب الذي يواجه الإنسان في سبيل تحصيل ما يحتاج إليه. فالعسرة هي الحالة التي يشعر فيها الإنسان بالضيق وعدم القدرة على التحمل أو الاستمرار بسبب قلة الموارد أو الظروف المحيطة به.
في القرآن الكريم، وردت كلمة “العسرة” في عدة مواضع، منها قوله تعالى:
“إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة: 60).
والمقصود بـ”العسرة” في هذه الآية هو حالة الحاجة والفقر التي قد تصيب الإنسان أو الجماعة، وبالتالي يكون التعامل معها عن طريق الصدقات والصدقات الواجبة في سبيل تخفيف تلك العسرات عن الناس.
غزوة تبوك: خلفية تاريخية وملابساتها
غزوة تبوك هي واحدة من آخر الغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت في السنة التاسعة من الهجرة. وكان سبب الغزوة هو تهديدات الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تسعى إلى التوسع في المنطقة العربية وتهديد الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا كبيرًا نحو تبوك، وهي منطقة تقع في الشام بالقرب من الحدود التي كانت تفصل بين إمبراطورية الروم والجزيرة العربية. كان الهدف من الغزوة هو حماية حدود الدولة الإسلامية وتأكيد قوتها في المنطقة.
لكن هذه الغزوة لم تكن كسائر الغزوات الأخرى التي خاضها المسلمون، إذ شهدت صعوبات كبيرة من حيث الظروف المعيشية، قلة الموارد، وشدة الحرارة، بالإضافة إلى بعد المسافة. كانت هذه العوامل كلها مجتمعة تؤكد مدى الصعوبة والعسر الذي واجهته الجيوش الإسلامية في تلك الفترة.
العوامل التي أدت إلى عسرة الغزوة
المشقة في السفر
كان المسلمون في غزوة تبوك يواجهون مشقة كبيرة بسبب المسافة الطويلة التي كانت تقدر بحوالي 700 كم من المدينة المنورة إلى تبوك. وكان السفر في تلك الفترة يتم على ظهور الجمال أو الخيول، وهو أمر مرهق في تلك الظروف القاسية، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف.
قلة الموارد والمال
من العوامل الأخرى التي جعلت هذه الغزوة صعبة للغاية هو قلة الموارد المالية والمادية. كانت المدينة المنورة في ذلك الوقت تعاني من ضائقة اقتصادية، إذ كان المسلمون قد استنفدوا الكثير من مواردهم في الغزوات السابقة مثل غزوة أحد وغزوة الخندق. ومع غزوة تبوك، كان المسلمون بحاجة إلى تجهيزات كبيرة مثل الأسلحة، المؤن، والمال، وهو ما تطلب تضافر جهود المجتمع لتأمين هذه الموارد.
لقد تعرض الصحابة لاختبار صعب في هذه الغزوة. فالمجتمع المدني كان يعيش في ظروف اقتصادية صعبة، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين المساهمة بمالهم لتجهيز الجيش. فكان هناك من تبرع بكل ما لديه، ومنهم من أعطى جزءًا من ماله، مثل أبو بكر الصديق الذي قدم كل ما يملك، وعثمان بن عفان الذي ساهم بأموال ضخمة.
شدة حرارة الصيف
إن غزوة تبوك كانت في أشهر الصيف الحارة، وهو ما زاد من صعوبة الرحلة. كان الطقس الحار يؤثر بشكل كبير على قدرة الجنود على التحمل، مما جعل البعض يفكر في العودة قبل الوصول إلى تبوك.
المنافقون والمواقف الصعبة
كما كانت غزوة تبوك شاهدة على اختبار آخر تمثل في موقف المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان في البداية ولكنهم تراجعوا ورفضوا المشاركة في الغزوة. هؤلاء المنافقون كان لهم دور كبير في نشر الشائعات والمساومة على تحفيز المسلمين على عدم المشاركة في الغزوة، وهو ما زاد من صعوبة الأمور.
سبب التسمية بـ “غزوة العسرة”
أطلق الصحابة والمسلمون على هذه الغزوة اسم “غزوة العسرة” لأنهم واجهوا فيها العديد من الصعوبات والعثرات. فقد كانت هذه الغزوة مليئة بالتحديات الكبيرة التي تتعلق بالظروف المعيشية، وشدة السفر، وقلة المال. وواجه المسلمون العديد من العقبات التي جعلتهم يعانون من صعوبة التحرك والتقدم في سبيل الله، بما في ذلك الحر الشديد، وقلة الموارد المالية، والمشاكل المتعلقة بالإمدادات والعتاد.
ومع ذلك، أثبت المسلمون صبرًا عظيمًا وشجاعة لا مثيل لها. ورغم الظروف الصعبة التي مروا بها، فإنهم أصروا على المضي قدمًا في سبيل الله. وقد بيّن القرآن الكريم في العديد من الآيات عظم هذه التضحيات، كما في قوله تعالى:
“لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَن أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّۭا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌۭ” (الحديد: 10).
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي يذكر فيه الصعوبات التي واجهها المسلمون في هذه الغزوة، وكيف أن هذه العسرات قد تم تجاوزها بالإيمان والصبر.
الدروس المستفادة من غزوة العسرة
تُعد غزوة تبوك، أو “غزوة العسرة”، من أبرز الغزوات التي تبين لنا مفهوم التضحية والصبر في الإسلام. فقد واجه المسلمون في هذه الغزوة تحديات ضخمة سواء كانت في الجوانب الاقتصادية أو البشرية، ولكنهم استمروا في المسير لتحقيق الهدف النبيل.
من أبرز الدروس التي يمكن استخلاصها من غزوة العسرة هي:
-
التضحية والإيثار: قدم المسلمون في هذه الغزوة أموالهم وأرواحهم في سبيل الله، مما يعكس مدى إيمانهم العميق وحرصهم على تحقيق أهداف الأمة الإسلامية.
-
التحلي بالصبر والثبات في الظروف الصعبة: أظهرت هذه الغزوة أن المسلم الحقيقي هو الذي يثبت في الأوقات الصعبة ولا يتراجع مهما كانت التحديات.
-
مؤازرة الفقراء والمحتاجين: أثبتت الغزوة أن التكافل الاجتماعي هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، حيث تعاون المسلمون لتوفير الدعم المالي والعيني لجيوشهم رغم الصعوبات.
-
الصدق والإخلاص في العمل: من خلال موقف الصحابة الصادقين في تلك الغزوة، نجد أن النجاح في معركة تبوك كان من نصيب من صدقوا مع الله ورسوله، بينما فشل المنافقون في الالتحاق بالركب.
الخاتمة
غزوة تبوك، أو “غزوة العسرة”، تمثل دروسًا عميقة في الإيمان والتضحية والصبر في سبيل الله. وبالرغم من كل العسرات التي واجهها المسلمون في تلك الغزوة، فإنهم أظهروا قوة إيمانهم، وثباتهم على الحق، وأثبتوا للعالم أن العقبات لا يمكن أن تقف في طريق إيمانهم وطموحاتهم في خدمة دينهم.
