غاية خلق الإنسان

الهدف من خلق الإنسان

من أعمق المسائل الفلسفية والوجودية التي شغلت عقول البشر على مر العصور، هي مسألة الغاية من خلق الإنسان. وقد تناولتها الأديان، والفلسفات، والمدارس الفكرية، كلٌ من منظوره الخاص. وفي السياق الإسلامي، تتجلى هذه الغاية بوضوح وجلاء في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، حيث بيّنت أن الإنسان لم يُخلق عبثاً، ولم يُترك سدى، بل خُلق لحكمة عظيمة وهدف سامٍ، يتجاوز الماديات والشهوات العابرة.

مفهوم الخلق في التصور الإسلامي

في الإسلام، لا يُنظر إلى الخلق باعتباره وليد الصدفة أو نتاجًا لعملية عشوائية، وإنما هو فعل مقصود من الله تعالى، القادر العليم الحكيم. وقد قال سبحانه وتعالى:

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].

هذه الآية تحسم بشكل قاطع فكرة العبث أو عدم الجدوى من وجود الإنسان، مؤكدة أن الخلق له غاية ومعنى.

العبادة: الغاية العليا من الخلق

يتجلّى الهدف الجوهري والأساسي من خلق الإنسان في قوله تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

فالمقصود من الخلق هو تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، والعبادة هنا ليست محصورة في الشعائر كالصلاة والصيام فقط، بل تشمل كل مظاهر السلوك الإنساني حين يقصد بها رضا الله، فيتحول العمل، والسعي، والعلم، والبر، والإحسان، إلى عبادات إذا اقترنت بالنية الصادقة.

الابتلاء والاختبار في حياة الإنسان

إحدى الحكم الجوهرية لخلق الإنسان هي الابتلاء، قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].

فالحياة الدنيا، بمنظورها الإسلامي، هي دار ابتلاء وليست دار قرار. يُمتحن الإنسان فيها في إيمانه، وسلوكه، وأخلاقه، وتصرفاته، ويُجازى بناءً على نتائج هذا الاختبار في الدار الآخرة، إما بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.

الاستخلاف في الأرض

يُعد الاستخلاف من الأهداف العظيمة لخلق الإنسان. فقد قال الله تعالى:

﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

والخلافة هنا لا تعني مجرد السلطة أو السيطرة، بل تعني أن الإنسان وُكّل إليه عمارة الأرض وإقامة العدل فيها وفق منهج الله. فالإنسان مسؤول عن البيئة، والمجتمع، والقيم، وعن كل ما يقع في نطاق أثره، ليكون خليفة لله في الأرض بالحق والعدل، لا بالظلم والفساد.

تحقيق مقاصد الرحمة والهداية

من مقاصد خلق الإنسان أن ينال من فيض رحمة الله وهدايته، ويعيش في إطار المنهج الذي يقوده إلى السعادة الحقيقية. قال تعالى:

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].

وقد أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وفتح أبواب التوبة، وأعطى الإنسان العقل والضمير، ليمكّنه من إدراك الحق وسلوك طريق الهداية.

الغاية من الخلق في ضوء السنن الكونية

يعيش الإنسان في كون تحكمه سنن دقيقة، مما يدل على أن الخلق مبني على الحكمة والتقدير المحكم. فلو لم يكن لوجود الإنسان غاية، لكان وجود هذه السنن باطلاً. النظام الفلكي، والتوازن البيئي، والقوانين الفيزيائية، كلها تشير إلى دقة الخلق وإلى أن هذا الكون أُعدّ ليستوعب وجود الكائن المكرم، الإنسان، ليؤدي رسالته فيه.

الكرامة الإنسانية في أصل الخلق

من أبرز مظاهر الغاية من خلق الإنسان أن الله سبحانه وتعالى كرّم هذا الكائن، تَكريمًا خاصًا، فقد قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].

والكرامة تعني المسؤولية، وتعني أن هذا الكائن مهيأ ليكون واعيًا بذاته وبما حوله، قادرًا على التمييز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وهو مؤهل لتحمل الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.

العلاقة بين الغاية والحرية

الحرية عنصر محوري في تحقيق الغاية من خلق الإنسان، فهو مخيّر بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والعصيان، وله إرادة مستقلة. وهذا ما يُضفي على سلوكه قيمة معنوية وأخلاقية، لأنه يختار الخير بإرادته، ويجتنب الشر بقناعته. ولو لم يكن للإنسان حرية لما كان للعبادة معنى ولا للاختبار جدوى.

الأمانة الكبرى: مسؤولية الإنسان

جاء في قوله تعالى:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ [الأحزاب: 72].

وهذه الأمانة تتضمن التكاليف الشرعية والعقلية، وتمثل مسؤولية كبرى توجب على الإنسان أن يكون مدركًا لأفعاله ومحاسبًا عليها، مما يؤكد أن غاية الخلق مرتبطة بتحقيق هذه الأمانة على أكمل وجه.

عمارة الأرض والتنمية الشاملة

خلق الإنسان ليعمر الأرض وينهض بها، لا ليعيش على هامش الحياة. قال تعالى:

﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].

والاستعمار هنا ليس بالمعنى السياسي الحديث، بل بمعناه القرآني الأصيل، أي طلب الإعمار والتنمية والابتكار، بما يعود بالنفع على الإنسان والمجتمع. فالعلم، والصناعة، والزراعة، والعدالة الاجتماعية، والابتكار التقني، كلها تدخل ضمن عمارة الأرض إذا كانت في إطار أخلاقي وإنساني.

الجدول التالي يوضح أبعاد الغاية من الخلق في ضوء الرؤية الإسلامية:

الغاية من الخلق في السياق الوجودي والفلسفي

على مستوى الفلسفة الوجودية الإسلامية، فإن الإنسان ليس كائنًا عابرًا أو منتجًا بيولوجيًا فقط، بل هو ذات تحمل في أعماقها سرًّا إلهيًّا، ومنطلقًا معرفيًّا، ورسالة أخلاقية. غايته أن يكون “إنسانًا ربانيًّا”، يُنمّي الجوانب المادية والروحية في توازن، فيحيا حياة طيبة في الدنيا، وينال السعادة الأبدية في الآخرة.

خاتمة تأصيلية

الهدف من خلق الإنسان لا ينفصل عن هويته وكرامته ووعيه. لقد خُلق ليعبد الله، ويختبر في هذه الحياة، ويعمر الأرض بالخير، ويكون مسؤولًا عن أفعاله. وكلما ابتعد الإنسان عن هذه الغاية، كلما فقد المعنى الحقيقي لحياته، وسقط في دوامة التيه الوجودي. أما إذا سعى لتحقيق هذه الغايات، فإنه يحقق إنسانيته الحقة، ويعيش حياة متزنة، فيها سكينة النفس، واستنارة العقل، وسلامة الروح، ورفعة في الدنيا والآخرة.

المراجع:

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.

2. أبو حامد الغزالي، “إحياء علوم الدين”، تحقيق عبد السلام محمد هارون.