عيش اللحظة وسط التوترات

عيش اللحظة: حاجة ملحة في ظل انعدام الطمأنينة

في خضم عالم متسارع تغمره الضوضاء والتقلبات اللامتناهية، أصبح من الصعب على الإنسان أن يجد ملاذًا داخليًا أو نقطة ارتكاز نفسية يشعر معها بالسلام والسكينة. لا تقتصر هذه الصعوبة على حالات فردية، بل أصبحت ظاهرة معولمة تتجسد في اضطرابات القلق والاكتئاب، وانعدام الأمان الوجودي، والضياع الداخلي الذي يعاني منه الأفراد في شتى بقاع الأرض. في هذا السياق المتأزم، يظهر مفهوم “عيش اللحظة” كضرورة نفسية وسلوكية، وليس مجرد ترف فكري أو فلسفة تأملية. بل بات بمثابة وسيلة للبقاء الروحي والعقلي في عالم يتفكك فيه المعنى وتتهاوى فيه الثوابت.

الانفصال عن اللحظة الراهنة: سمات الحياة المعاصرة

الإنسان الحديث يعيش أغلب أوقاته إما في ماضٍ يعيد اجتراره أو في مستقبل مجهول ينهكه القلق بشأنه. فبدل أن يكون حاضراً في واقعه، ينغمس في دوامة من التوقعات والتخوفات والتقييمات التي تسرق منه لحظته الحالية. تتجلى هذه الظاهرة في أنماط الحياة الرقمية، حيث نادراً ما يركز الفرد على نشاط واحد دون تشتيت. الهاتف الذكي في يده، والإشعارات لا تتوقف، والمهام تتراكم، والعقل في حالة تأهب دائم. هذا الانفصال عن اللحظة هو ما يعزز شعور الإنسان بالضياع واللاطمأنينة، في ظل تلاشي الحضور الذهني والتواصل الحقيقي مع الذات والآخرين.

عيش اللحظة: مفهوم يتجاوز السطحية

“عيش اللحظة” لا يعني الهروب من الواقع أو التخلي عن الطموحات والخطط المستقبلية. بل هو دعوة للاستغراق الواعي في الحاضر بكل تفاصيله دون إصدار أحكام أو مقارنات. إنها ممارسة عقلية ونفسية تعيد الإنسان إلى جذور وجوده، وتمنحه نوعًا من التوازن العاطفي والفكري. يتطلب الأمر وعيًا بالتنفس، بالبيئة المحيطة، بالأحاسيس الداخلية، وبكل ما يمر به الإنسان في اللحظة الراهنة. عيش اللحظة يعني التوقف عن اللهاث وراء المثالية، والقبول بالواقع كما هو، بكل ما فيه من جمال ونقص.

عيش اللحظة كآلية للمقاومة النفسية

في ظل تراجع الطمأنينة الناتجة عن الأزمات الاقتصادية، والكوارث البيئية، والنزاعات المسلحة، والانعزال الاجتماعي، تزداد حاجة الإنسان إلى أدوات مقاومة نفسية تحفظ توازنه الداخلي. ومن بين هذه الأدوات تبرز ممارسة الحضور الواعي أو “عيش اللحظة” باعتبارها استراتيجية فعالة لمجابهة القلق الوجودي. إذ تتيح هذه الممارسة للإنسان فرصة لتفكيك مشاعره السلبية، وفهم أعمق لتجاربه الشخصية، والتمسك بأبسط مظاهر الجمال في الحياة اليومية.

تُظهر الدراسات النفسية المعاصرة أن الأفراد الذين يتبنون نمط التفكير القائم على الوعي اللحظي هم أقل عرضة للقلق المزمن، وأكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات، ويملكون مستويات أعلى من الرضا عن الحياة. فحين يترك الإنسان مخاوفه جانبا ويمنح عقله استراحة من التحليل الزائد، تتاح له فرصة فريدة لاكتشاف قدراته الكامنة، والتصالح مع ذاته، وتقدير اللحظات العابرة التي غالبًا ما يهملها في زحمة الحياة.

السياق التاريخي والفلسفي لمفهوم عيش اللحظة

يعود مفهوم عيش اللحظة إلى جذور فلسفية عميقة، حيث تبنته العديد من المدارس الفكرية في الشرق والغرب. ففي الفلسفة الرواقية، مثلاً، نجد دعوة واضحة إلى التركيز على ما هو تحت سيطرتنا، أي اللحظة الراهنة، والتخلي عن التعلق بما لا يمكن تغييره. أما في التعاليم البوذية، فيُعتبر “الوعي الكامل” حجر الزاوية في طريق التحرر من المعاناة الذهنية. وبدورها، تعزز فلسفة الوجودية هذا التوجه من خلال تأكيدها على ضرورة أن يعيش الإنسان تجربته الفردية بكل صدق ومسؤولية، بعيداً عن التبريرات الخارجية.

حتى في التراث الصوفي الإسلامي، نجد بعدًا عميقًا لهذا المفهوم، حيث يتحدث المتصوفة عن الحضور القلبي، والذوق الروحي للحظات العبادة والتأمل، والانغماس في اللحظة الراهنة باعتبارها مجال التقاء بين العبد والخالق.

الآثار النفسية الإيجابية لممارسة عيش اللحظة

توصلت الأبحاث النفسية المعاصرة، خاصة في مجالات العلاج المعرفي السلوكي والعلاج باليقظة الذهنية (Mindfulness-Based Cognitive Therapy)، إلى نتائج مثبتة حول الفوائد العميقة لممارسة عيش اللحظة. من أبرز هذه الفوائد:

• تخفيض مستويات التوتر والقلق: حيث يساعد التركيز على اللحظة الراهنة على تعطيل التفاعلات المبالغ فيها مع الأحداث المستقبلية أو الماضية.

• تحسين جودة النوم: إذ أن الانغماس الواعي في اللحظة يخفف من التفكير الزائد قبل النوم.

• زيادة الشعور بالامتنان: فعندما يتوقف الإنسان ليتأمل جمال زهرة أو صوت طائر أو دفء الشمس، تتفتح لديه مشاعر الشكر والرضا.

• تعزيز القدرة على التركيز: لأن العقل المرتبط باللحظة يكون أكثر كفاءة ووضوحًا في معالجة المهام.

• مقاومة الإدمان والسلوكيات القهرية: حيث تقل الحاجة للهروب أو التعلق بمشتتات عندما يكون الإنسان حاضرًا في ذاته.

عيش اللحظة في البيئة الرقمية: تحديات وفرص

رغم أن التقنيات الحديثة فرضت تحديات كبيرة أمام الحضور الذهني، إلا أن نفس هذه التقنيات يمكن أن تصبح أدوات مساعدة لممارسة عيش اللحظة إذا ما أُحسن استخدامها. فهناك تطبيقات ذكية مخصصة لتذكير الإنسان بالتنفس العميق، أو لممارسة التأمل، أو لتحديد وقت استخدام الشاشة. كما أن الفضاء الرقمي يتيح الوصول إلى موارد تعليمية مرئية وصوتية تعزز الوعي الذاتي وتدرب الفرد على تقنيات الحضور اللحظي. المهم هو التوازن وعدم التحول إلى عبد لهذه الأدوات.

عيش اللحظة في بيئات الأزمات والشتات

في مناطق الحروب، وفي مخيمات اللاجئين، وبين جدران السجون، يواجه الإنسان أقسى مظاهر انعدام الطمأنينة. ومع ذلك، فإننا نجد نماذج إنسانية مذهلة استطاعت أن تحافظ على جزء من اتزانها النفسي عبر عيش اللحظة. فالنجاة اليومية بحد ذاتها تصبح شكلًا من أشكال الحضور الواعي، حيث يتحول التركيز إلى أشياء بسيطة مثل شربة ماء، أو لمسة دافئة من قريب، أو حتى لحظة صمت. في هذه السياقات، يصبح عيش اللحظة فعل مقاومة وجودية، يرمم ما تكسره المعاناة، ويحفظ للإنسان حدًا أدنى من الأمل.

الجدول التالي يوضح الفروق الجوهرية بين نمط الحياة المتمحور حول القلق ونمط الحياة القائم على عيش اللحظة:

بناء ثقافة مجتمعية تقوم على عيش اللحظة

لتصبح ممارسة عيش اللحظة جزءاً من الوعي الجمعي، لا بد من إعادة النظر في البنية الثقافية والتربوية والإعلامية. فالمجتمع الذي يربط النجاح بمراكمة الإنجازات فقط، والذي يحتفي بالتسارع والضغط، يصعب أن يهيئ بيئة تسمح للفرد بالارتباط باللحظة. المطلوب هو ترسيخ قيم التوازن، واحترام المساحة الشخصية، وتقدير الجماليات البسيطة، وتعليم الأطفال مهارات التأمل والوعي الذاتي في سن مبكرة. كما ينبغي إدراج برامج تعليمية تتناول الذكاء العاطفي وأهمية الحضور الذهني، وتشجيع وسائل الإعلام على إبراز قصص لأشخاص استطاعوا أن يحققوا السلام الداخلي بعيداً عن صخب العالم.

خاتمة تحليلية

في عالم يسوده الاضطراب وانعدام الطمأنينة، يصبح عيش اللحظة حاجة وجودية لا غنى عنها، تمثل استعادة للسيادة النفسية والروحية في وجه الطوفان الخارجي. إن اللحظة الراهنة، رغم بساطتها الظاهرية، تختزن قدرًا هائلًا من الإمكانيات الإنسانية العميقة. في داخلها يمكن للإنسان أن يلتقي بذاته، أن يشفى من ندوبه، وأن يسترد علاقته بالحياة على نحو أصيل. ليست اللحظة مجرد وقت يمضي، بل هي المساحة التي يمكن من خلالها أن يولد الأمل، وتتجدد الطاقة، ويُعاد بناء المعنى في قلب العاصفة.

المراجع

1. Kabat-Zinn, J. (2003). Mindfulness-Based Interventions in Context: Past, Present, and Future. Clinical Psychology: Science and Practice.

2. Tolle, E. (1997). The Power of Now: A Guide to Spiritual Enlightenment.