تعريف علم الكلام

علم الكلام هو أحد أبرز العلوم الإسلامية التي نشأت في السياق الفكري والثقافي الإسلامي منذ القرون الأولى للهجرة، وقد تميز بكونه علماً نظرياً عقلانياً يُعنى بإثبات العقائد الإسلامية والدفاع عنها، وردّ الشبهات المثارة حولها باستخدام أدوات عقلية ومنطقية. ويمتد تأثير هذا العلم إلى نواحٍ معرفية وفكرية متعددة، حيث يتداخل مع الفلسفة والمنطق وأصول الفقه، بل وحتى مع بعض المفاهيم السياسية والاجتماعية التي سادت في الحضارة الإسلامية.

يُعرف علم الكلام أيضاً بـ”علم التوحيد والصفات”، و”علم العقائد”، و”علم أصول الدين”، وهذه التسميات تعكس الجوانب المختلفة التي يتناولها هذا العلم، سواء تعلق الأمر بتوحيد الله، أو بصفاته، أو بموضوعات الإيمان والنبوة والمعاد والعدل الإلهي، وغيرها من القضايا العقدية.

النشأة التاريخية لعلم الكلام

نشأ علم الكلام كرد فعل على التحديات الفكرية والعقدية التي واجهتها الأمة الإسلامية في القرون الأولى، لاسيما بعد التوسع الكبير للدولة الإسلامية واحتكاكها بحضارات أخرى كاليونانية والفارسية والهندية. فقد بدأ المسلمون يواجهون تساؤلات فلسفية وعقدية لم تكن مطروحة بشكل مباشر في النصوص القرآنية والحديثية، مما تطلب إيجاد آليات عقلية للدفاع عن العقيدة الإسلامية.

وكان من أبرز الدوافع التي ساهمت في نشأة هذا العلم:

• الجدل حول مرتكب الكبيرة: وقد أدى إلى انقسام مبكر بين الخوارج والمرجئة والمعتزلة.

• الاحتكاك بالفلسفات الأجنبية: خاصة بعد ترجمة كتب الفلاسفة اليونان إلى اللغة العربية في العصر العباسي.

• ظهور الفرق العقدية: مثل الجهمية والمجسمة والقدرية وغيرهم، الذين أثاروا قضايا عميقة حول الصفات الإلهية، والقدر، والحرية الإنسانية.

• الرغبة في بيان العقيدة الإسلامية بأسلوب عقلي منطقي يتناسب مع تطور الفكر آنذاك.

تعريف علم الكلام من وجهة نظر العلماء

قدّم العلماء المسلمون تعريفات متعددة لعلم الكلام، اختلفت في صياغتها ولكنها اشتركت في المضامين الأساسية. من بين أشهر التعريفات:

• الآمدي: “علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُبه”.

• الجرجاني: “علم يُبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ إلى المعاد، على قانون الإسلام”.

• ابن خلدون: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقاد عن مذاهب السلف وأهل السنة”.

وهذه التعريفات تُظهر أن علم الكلام ليس مجرد نقل للنصوص، بل هو اشتغال تأويلي وتحليلي على العقيدة الإسلامية باستعمال الأدوات العقلية والمنطقية، دون الخروج عن إطار الإسلام.

موضوعات علم الكلام

يتناول علم الكلام مجموعة واسعة من الموضوعات العقدية، من أبرزها:

1. وجود الله وصفاته

ويُعد إثبات وجود الله وتنزيهه عن النقص والحدود والصفات البشرية أحد الأركان الأساسية لهذا العلم. وقد ناقش المتكلمون صفات الله مثل العلم، القدرة، الإرادة، الكلام، السمع، البصر… إلخ، واختلفوا بين مثبت لها على سبيل الحقيقة أو المجاز، أو نافي لها بناءً على قاعدة التنزيه المطلق.

2. النبوة

تناول علم الكلام مفهوم النبوة، وشروطها، وضرورة إرسال الرسل، ومعجزاتهم، وصدقهم. كما ناقش مسألة خاتمية النبوة في الإسلام، وخصوصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

3. العدل الإلهي

وقد ركّز المتكلمون، خاصة المعتزلة، على هذه القضية بشكل خاص، حيث شددوا على أن العدل يقتضي أن لا يظلم الله أحداً، وأن أفعال العباد تقع تحت قدرتهم واختيارهم، في حين ذهب الأشاعرة إلى أن أفعال العباد مخلوقة لله لكنهم “يكسبونها”.

4. الإيمان والكفر

ناقش علم الكلام ماهية الإيمان، وهل يزيد وينقص، وهل الأعمال تدخل في تعريف الإيمان، كما تطرق إلى قضية “مرتكب الكبيرة” ومصيره في الآخرة، وهي من القضايا التي أحدثت انقساماً كبيراً بين الفرق الكلامية.

5. القدر والحرية الإنسانية

من أعقد المسائل التي تناولها علم الكلام، وهي العلاقة بين قدرة الله المطلقة وحرية الإنسان في أفعاله، وهل الإنسان مخيّر أو مسيّر، وقد انقسم المتكلمون إلى مذاهب متعددة حول هذه النقطة.

6. المعاد واليوم الآخر

يتناول هذا الموضوع كيفية البعث، وحقيقة الجنة والنار، والحساب، والشفاعة، والصراط، وغيرها من القضايا المرتبطة بالآخرة، كما اختلفوا في تفسير الأمور الغيبية: هل تُؤخذ على ظاهرها أم تُؤول.

الفرق الكلامية

علم الكلام ارتبط بظهور الفرق الكلامية الكبرى التي أثّرت في تطوره، ومن أبرز هذه الفرق:

العلاقة بين علم الكلام والفلسفة

رغم أن الفلسفة وعلم الكلام يستخدمان أدوات تحليلية وعقلانية متقاربة، فإن العلاقة بينهما كانت متوترة في أحيان ومتقاربة في أخرى. فبينما اتهم بعض المتكلمين الفلاسفة بالخروج عن الدين، حاول آخرون التوفيق بين الفلسفة والكلام، ومن أبرزهم الفيلسوف والمتكلم الفارابي وابن سينا، بينما جاء الغزالي بنقد جذري للفلاسفة في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة، حيث اعتبرهم مخطئين في مسائل عقدية أساسية.

وقد استخدم المتكلمون المنطق الأرسطي في إثبات العقائد، وهو ما يظهر تأثير الفلسفة اليونانية على بنية علم الكلام، رغم محاولة كثير منهم الحفاظ على المرجعية الإسلامية للنقاش.

تطور علم الكلام عبر العصور

العصر العباسي

شهد العصر العباسي ازدهاراً غير مسبوق لعلم الكلام، خاصة مع صعود المعتزلة الذين دعمهم الخلفاء العباسيون في فترة من الفترات، أبرزها في عهد المأمون، والواثق، والمعتصم. وقد عُرف هذا العصر بظهور محنة خلق القرآن التي كانت موضوعاً كلامياً أساسياً، حيث رأى المعتزلة أن القرآن مخلوق لأنه كلام الله، بينما رأت أطراف أخرى من أهل السنة والجماعة أنه غير مخلوق.

العصور المتأخرة

مع تراجع الزخم الفلسفي والفكري في العالم الإسلامي، تحول علم الكلام إلى أداة دفاعية أكثر من كونه ابتكاراً وتحليلاً جديداً. لكنه ظل حاضراً في مناهج التعليم الديني، لا سيما في الأزهر، والزيتونة، والقرويين، ومراكز العلم في الدولة العثمانية.

العصر الحديث

شهد علم الكلام في العصر الحديث دعوات لإحيائه على أسس جديدة تتناسب مع التحديات الفكرية والوجودية المعاصرة، منها الإلحاد، والنسبية، والعلموية. ومن أبرز المفكرين الذين نادوا بتجديد علم الكلام محمد إقبال، وطه عبد الرحمن، وحسن حنفي، حيث دعوا إلى تطوير ما يسمى بـ”علم الكلام الجديد”، الذي يتعامل مع قضايا الإنسان المعاصر من منطلق إيماني عقلاني متجدد.

أهمية علم الكلام في السياق الإسلامي

• الحفاظ على وحدة العقيدة: من خلال ضبط المفاهيم العقدية ومنع الانحرافات الفكرية.

• الدفاع عن الدين: أمام التيارات الفكرية الأخرى داخل وخارج الإسلام.

• تنمية العقل الإسلامي: عبر تعزيز التفكير النقدي، والتحليلي، والمنطقي.

• الربط بين الدين والفكر: بحيث لا يتم تجميد الدين في قوالب نصوصية فقط، بل يُفهم بشكل يتفاعل مع معطيات العصر.

خاتمة

علم الكلام يمثل أحد أرقى أشكال الإنتاج المعرفي الإسلامي، وهو تجلٍّ للفكر الإسلامي حين يسعى إلى فهم الوحي في ضوء العقل، والدفاع عن المعتقد في وجه التحديات الفكرية المتنوعة. وهو علم لم يتوقف عند مسائله التقليدية، بل تجدد وارتبط بمفاهيم جديدة حول الإنسان، والكون، والعقل، مما يجعله مرشحاً للاستمرار كإطار تأويلي وتحليلي يتفاعل مع تغيرات الزمن، ويحمي العقيدة من التفكك أو الجمود في آنٍ واحد.

المراجع

1. الشهرستاني، الملل والنحل، دار الفكر.

2. عبد الرحمن بدوي، تاريخ علم الكلام، دار النهضة العربية.