علامات الابتعاد عن الشغف

في خضم الانشغالات اليومية والضغوط المجتمعية المتزايدة، يغفل الكثير من الأشخاص عن اتباع شغفهم الحقيقي في الحياة، وينساقون خلف مسارات مهنية أو تعليمية أو اجتماعية لا تنبع من أعماق ذواتهم. إن الانفصال عن الشغف لا يؤدي فقط إلى فقدان الحماسة، بل يترك أثرًا سلبيًا عميقًا على جودة الحياة، والرضا الشخصي، والإنتاجية. المقال التالي يسلط الضوء على خمس إشارات قوية تشير إلى أن الإنسان قد يكون ابتعد عن شغفه، ويغوص في دوامة من الرتابة والخمول العاطفي والمعنوي، دون أن يدرك أحيانًا أن السبب الجذري يكمن في تجاهل نداء الشغف.

1. الشعور الدائم بالملل وفقدان الحماسة

من أبرز العلامات التي تدل على أنك لا تتبع شغفك في الحياة هو الشعور المستمر بالملل، حتى في أكثر اللحظات التي من المفترض أن تكون محفزة أو مثيرة. عندما لا يكون العمل أو المسار الحياتي منبثقًا من الداخل، يصبح مجرد روتين ثقيل، تكرار ممل لا يضخ فيك أي طاقة. هذا الشعور لا يرتبط فقط بالعمل، بل يمتد ليطال العلاقات الاجتماعية، والروتين اليومي، وحتى النظرة العامة للمستقبل.

الأشخاص الذين يتبعون شغفهم يظهرون علامات واضحة من التفاعل الإيجابي والحيوية تجاه تفاصيل يومهم، بينما من هم بعيدون عن الشغف يشعرون بأن كل لحظة تمر هي عبء ثقيل يراكم الضغط والضجر.

2. انخفاض الدافعية وصعوبة الاستمرار

غياب الشغف يؤدي بشكل مباشر إلى تراجع الدافعية. الشخص الذي لا يعمل وفق ما يحب، يجد صعوبة في الاستمرار على المدى الطويل، وتصبح المهام مهما كانت بسيطة عبئًا نفسيًا يتطلب مجهودًا إضافيًا. تبدأ الأعذار بالتكاثر، وتتسلل مشاعر المماطلة والتسويف إلى كل زاوية من زوايا حياته.

هذا الانخفاض في الدافعية لا يرتبط بالكسل، بل يعكس غياب الرابط العاطفي بين الإنسان وما يقوم به. عندما لا ينبثق الجهد من مكان داخلي حقيقي، يصبح الاستمرار في أي مشروع أو وظيفة أو مسار تعليمي مجرد محاولة للبقاء على قيد التوقعات الاجتماعية، وليس رغبة داخلية.

3. الشعور بالفراغ الداخلي وفقدان الهوية

الشغف ليس فقط دافعًا للحركة، بل هو جزء أساسي من هوية الإنسان. حينما ينفصل المرء عن شغفه، يبدأ في فقدان الإحساس بهويته الحقيقية. يشعر بأنه غريب عن نفسه، غير متصالح مع قراراته، وكأنه يؤدي أدوارًا لا تنتمي له. وهذا الفراغ الداخلي هو أحد أخطر المؤشرات التي تمر دون ملاحظة في كثير من الأحيان، فيُعزى إلى الاكتئاب أو الإرهاق أو ضغط الحياة، بينما هو في حقيقته نتاج مباشر لغياب المعنى.

الشخص الذي لا يتبع شغفه غالبًا ما يشعر بأن هناك شيئًا ناقصًا، شيئًا لا يمكن تحديده بسهولة، لكنه يرافقه كظل دائم، يُشعره بأن الحياة تفتقر إلى العمق الذي يستحق.

4. تجاهل الوقت عند القيام بالمهام

من العلامات الدقيقة لكن العميقة في تشخيص الابتعاد عن الشغف، هو كيف يشعر الإنسان تجاه الوقت أثناء قيامه بمهمة ما. حين يكون الشخص شغوفًا بما يفعل، يمر الوقت كأنه لحظة، لا يشعر به، بل يغوص في حالة من التركيز والانغماس الإبداعي تُعرف في علم النفس بـ”الانسياب” (Flow). أما في حالة غياب الشغف، فإن الدقيقة تبدو ساعة، والساعة وكأنها يوم، ويكون الشخص على الدوام منتظرًا لانتهاء الوقت بدلًا من الاستمتاع به.

هذا الإحساس بالزمن مؤشر داخلي عميق يمكن أن يكون بوصلتك لمعرفة مدى توافق مسارك الحالي مع شغفك الحقيقي.

5. الغيرة من نجاحات الآخرين في مجالاتهم

عندما ترى شخصًا آخر يحقق إنجازات في مجال معين وتشعر بغيرة أو إحباط عميق، رغم أنك لا تعمل في نفس المجال، فذلك غالبًا ما يعكس رغبة دفينة في أن تكون مكانه. هذه الغيرة ليست حسدًا سلبيًا، بل هي رسالة خفية من الذات تشير إلى أنك ترى في ذلك الشخص تجسيدًا لصورة أنت تتوق لها.

الشغف الحقيقي عندما يُهمل، يبدأ في التمرد داخل النفس عبر مظاهر مثل التوتر، والغيرة، والانتقاص من نجاحات الآخرين، لأنها تذكّر اللاوعي بما فقدته أو تجاهلته.

تأثيرات عدم اتباع الشغف على الصحة النفسية والجسدية

عدم الاستماع لصوت الشغف لا يؤدي فقط إلى معاناة نفسية، بل يمكن أن يؤثر على الجسد أيضًا. القلق المزمن، التوتر، اضطرابات النوم، الشعور بالإرهاق المستمر، كلها أعراض نفسجسمانية تنشأ عندما يعيش الإنسان حياة لا تعكس حقيقته الداخلية. كذلك، فإن فقدان الإحساس بالإنجاز أو الغاية يؤدي إلى انخفاض في إفراز هرمونات السعادة مثل السيروتونين والدوبامين، مما يجعل الشخص أكثر عرضة للاكتئاب والقلق.

الفرق بين الشغف والوظيفة التقليدية

الوظيفة التقليدية في كثير من الأحيان تضمن الاستقرار المادي، لكنها لا تضمن بالضرورة الرضا الداخلي. الشغف من ناحية أخرى لا يرتبط دائمًا بعائد مادي مباشر، لكنه يوفر نوعًا من الإشباع النفسي والمعنوي لا يمكن لأي مرتب أو مكافأة أن تعوض عنه. التحدي يكمن في الموازنة بين الاثنين، والسعي تدريجيًا نحو تحويل الشغف إلى مصدر دخل، أو على الأقل تخصيص وقت منتظم لممارسته.

كيف نكتشف ما إذا كنا نتبع شغفنا أم لا؟

يمكن الاستعانة بالعديد من المؤشرات النفسية والسلوكية لتحديد ذلك، ومن أبرزها:

التأثير طويل المدى للابتعاد عن الشغف

الاستمرار في طريق لا يعكس الشغف قد يؤدي إلى نتائج كارثية على المدى الطويل. من بينها اتخاذ قرارات مهنية خاطئة، البقاء في علاقات غير صحية، أو اختيار تخصصات لا تعكس طموحات الشخص الحقيقية. كما أن الشخص قد يصل إلى منتصف حياته ويشعر بأنه أضاع سنوات في ما لا يعنيه، مما يولّد شعورًا بالندم وفقدان الأمل.

كيف يمكن العودة إلى طريق الشغف؟

العودة إلى الشغف ليست عملية فورية، لكنها تبدأ بالوعي. لا بد من تخصيص وقت للتأمل الذاتي، لإعادة تقييم ما يهمك فعلًا، وما هي الأنشطة التي تُشعل في داخلك الحماس. يمكن البدء بممارسات بسيطة: كتابة اليوميات، التحدث مع مرشد مهني، إعادة التواصل مع الهوايات القديمة، أو حتى الانضمام إلى ورش عمل وتجارب جديدة قد تكشف ما هو دفين.

الشغف قد يكون واضحًا منذ الطفولة، أو قد يتطلب رحلة استكشاف طويلة، لكن في جميع الحالات، لا شيء يعادل شعورك بأنك تعيش الحياة كما يجب، وفق صوتك الداخلي لا توقعات الآخرين.

خاتمة

الشغف ليس رفاهية نفسية، بل هو ركيزة أساسية لحياة متزنة، مليئة بالحيوية والمعنى. إن تجاهله، سواء بدافع الخوف أو ضغط الواقع، يؤدي إلى انطفاء داخلي تدريجي يؤثر على كل جوانب الحياة. ولكي يعيش الإنسان حياة غنية بالتجربة والإنجاز والرضا، لا بد له أن يصغي إلى نداء شغفه، ويتعامل معه كدليل وجوده الحقيقي.

المصادر والمراجع:

• Csikszentmihalyi, M. (1990). Flow: The Psychology of Optimal Experience. Harper & Row.

• Vallerand, R. J. (2015). The Psychology of Passion: A Dualistic Model. Oxford University Press.

• Pink, D. H. (2009). Drive: The Surprising Truth About What Motivates Us. Riverhead Books.

• Sinek, S. (2009). Start With Why: How Great Leaders Inspire Everyone to Take Action. Portfolio.