كلنا نملك عقلية القرد!
في عالم مليء بالتحديات والضغوط اليومية، يبقى الإنسان في صراع مستمر مع ذاته ومحيطه. لا يكاد يمر يوم دون أن تواجهه مواقف تتطلب منه التفكير واتخاذ قرارات حاسمة قد تغير مجرى حياته. ومع كل هذا، تظل هناك فكرة تشغل العقل البشري، فكرة تبدو بسيطة لكنها تحمل في طياتها كثيراً من الحكمة: “كلنا نملك عقلية القرد”. ولكن ماذا تعني هذه العبارة، ولماذا يمكن أن يكون لها تأثير عميق على حياتنا اليومية؟ لتناول هذه الفكرة، علينا أولاً أن نتعرف على ماهية “عقلية القرد” وكيفية ارتباطها بطبيعة الإنسان.
ما هي “عقلية القرد”؟
للتوصل إلى فهم عميق لعبارة “عقلية القرد”، يجب أولاً أن نعرف المقصود بها. تشير هذه العبارة إلى سلوكيات معينة يقوم بها الإنسان والتي تشبه تلك التي يمارسها القرد في البرية. القرد، باعتباره أحد أقرب الكائنات إلى الإنسان من حيث التطور البيولوجي، يتسم بذكاء محدد لكنه قد يقع في فخ بعض العادات غير المفيدة.
في تجربة شهيرة، تم اختبار “عقلية القرد” من خلال إجراء تجربة في أواخر القرن التاسع عشر على القردة في حديقة حيوانات، حيث تم وضع طعام في مكان مرتفع يصعب الوصول إليه إلا باستخدام أداة معينة. في بداية التجربة، كانت القردة غير قادرة على الوصول إلى الطعام، لكنها بمجرد أن اكتشفت طريقة استخدام الأدوات، تمكنت من الحصول عليه. بعد فترة، بدأت القردة الأخرى التي لم تشارك في التجربة الأصلية باستخدام نفس الأدوات على الرغم من عدم معرفتها المسبقة بالطريقة.
الارتباط بين الإنسان والقرد
تشير هذه التجربة إلى كيف أن الإنسان، تماماً مثل القرد، يمتلك قدرة على اكتشاف الحلول، لكنه قد يتوقف عن السعي وراء الحلول الجديدة إذا لم يكن هناك دافع قوي. قد نتشبث أحياناً بأساليب قديمة أو معتقدات راسخة في حياتنا رغم أننا نعلم أنها لا تؤدي إلى نتيجة مثمرة، تماماً كما يفعل القرد الذي يتوقف عن السعي لمزيد من الحلول بعد أن يحصل على طعامه من خلال الطريقة التي تعلمها، حتى لو كان هناك طريق آخر أفضل.
إلى جانب ذلك، يتضح لنا أن العقل البشري يشارك القرد في ميول معينة نحو العادات المألوفة، حتى وإن كانت غير مفيدة. مثل القرد الذي يظل يحاول الدخول في نفس المسار، يتبع الإنسان نفس النمط العقلي غير الفعّال بسبب الراحة النفسية التي توفرها العادات المتكررة.
أنماط التفكير البشري: العقلية التقليدية
الإنسان، مثل القرد، يملك العديد من الأنماط الفكرية التي قد تكون محدودة أو مغلقة. هذه الأنماط غالباً ما تتشكل منذ الطفولة بسبب البيئة المحيطة والمعتقدات الثقافية السائدة. فمنذ الصغر، يكتسب الإنسان أفكاراً وتصورات حول العالم من خلال ما يراه ويسمعه من أسرته ومدرسته ومجتمعه. هذه التأثيرات تشكل “عقلية القرد” التي تقيد تفكير الإنسان في نطاق ضيق.
على سبيل المثال، قد يظل الشخص يفكر في أنه لا يمكنه تغيير وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي لأنه نشأ في بيئة تقول له: “لا يمكنك تحقيق النجاح إلا من خلال الطرق التقليدية”. أو قد يظل يعتقد أن نجاحه في الحياة مرتبط فقط بالشهادات الأكاديمية أو الموارد المالية المتاحة له، مما يمنعه من التفكير خارج الصندوق.
عقلية القرد تكمن في الاستمرار في اتباع هذه الأفكار حتى وإن لم تحقق له النجاح المرجو، معتقدًا أنه لا توجد طرق أخرى يمكن أن تؤدي إلى تحقيق أهدافه. وكأن الشخص عالق في دائرة من التفكير المغلق لا يستطيع الخروج منها.
التعلق بالعادات القديمة: الخوف من التغيير
من أكبر العوامل التي تساهم في ترسيخ “عقلية القرد” في الإنسان هي الخوف من التغيير. التغيير، بحد ذاته، يعتبر تهديدًا للمجهول، والإنسان بشكل عام يميل إلى تجنب المجهول، مفضلاً البقاء في منطقة الراحة التي يعرفها، حتى وإن كانت غير مثمرة أو مثيرة للقلق. هذا الارتباط بالأشياء القديمة والعادات المتوارثة، قد يعيق الإنسان عن اكتشاف آفاق جديدة قد تكون أفضل بكثير.
الفخ الذي يقع فيه الإنسان
في الكثير من الأحيان، لا يدرك الإنسان أنه عالق في نفس الدائرة التي يدور فيها القرد. فهو يعيش في عالم مليء بالفرص، لكن بسبب “عقلية القرد”، يتوقف عن السعي وراء التغيير أو تحسين حياته. هذا لا يعني بالضرورة أنه لا يمتلك القدرة على التحسين، بل يعني أنه يفتقر إلى الدافع للقيام بذلك. قد يكون هذا التوقف عن المحاولة ناتجًا عن مجموعة من العوامل النفسية مثل القلق أو الشك في الذات.
السبيل للخروج من “عقلية القرد”
لكي يتمكن الإنسان من التغلب على “عقلية القرد” والانطلاق إلى آفاق جديدة، يجب عليه أولاً أن يتجاوز الخوف من التغيير والتمسك بالعادات التي لم تعد تناسبه. عليه أن يعترف بأنه يمتلك القدرة على اكتشاف طرق جديدة للتعامل مع حياته ومشاكله. هذه الخطوة الأولى تتطلب الشجاعة والوعي بأن البقاء في نفس الوضع لفترات طويلة ليس هو الخيار الأمثل.
من الضروري أن يتحلى الإنسان بالمرونة العقلية، أي القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمستجدات. كما يجب أن يكون هناك استعداد دائم لاستكشاف أفكار جديدة والتعلم من الأخطاء. يمكن أن تكون هذه التجارب التي قد يبدو أنها خاسرة في البداية، هي المخرج الحقيقي من فخ العقلية التقليدية التي تقيّد الفرد.
التعلم المستمر: كسر الحواجز العقلية
التعلم المستمر هو المفتاح للخروج من “عقلية القرد”. عندما يتعلم الإنسان بشكل مستمر ويطور مهاراته، يبدأ في بناء عقلية مرنة تمكنه من التعامل مع المواقف الحياتية بشكل أفضل. هذا لا يعني فقط التعلم الأكاديمي أو المهني، بل يشمل أيضًا التعلم من التجارب الشخصية، والتفاعل مع الآخرين، وتبني أفكار جديدة ومختلفة. في كل مرة يتعلم فيها الشخص شيئًا جديدًا، فإنه يوسع حدود عقليته ويكسر القيود التي تفرضها عليه العادات القديمة.
المفاتيح التي تساعد على التحرر من “عقلية القرد”
-
التفكير النقدي: يجب على الإنسان أن يتبنى عقلية نقدية تجاه ما تعلمه سابقًا. بدلاً من قبول الأفكار السائدة بشكل أعمى، عليه أن يتساءل عن مدى صحتها وملاءمتها للحياة المعاصرة.
-
المغامرة في المجهول: لا بد للإنسان أن يتخطى منطقة الراحة ويمضي في طرق جديدة. المغامرة ليست مرتبطة فقط بالمخاطرة، بل بتجربة الأفكار والأساليب الجديدة.
-
التحفيز الداخلي: الإنسان بحاجة إلى تحفيز داخلي قوي يدفعه للاستمرار في التعلم والنمو الشخصي. هذا التحفيز قد يأتي من الرغبة في النجاح أو من الإيمان العميق بقدرته على تحسين حياته.
-
المرونة العقلية: يجب على الإنسان أن يكون مستعدًا لتغيير أفكاره ومواقفه بناءً على ما يتعلمه ويختبره في حياته.
