ماري كوري: عبقرية مهووسة
تعتبر ماري كوري واحدة من أعظم العلماء في التاريخ، وشخصية استثنائية تجمع بين العبقرية والإصرار المذهل. وُلدت كوري في بولندا عام 1867 باسم ماريا سكلودوفسكا، وانتقلت إلى فرنسا لتكمل تعليمها وتبحث عن فرص أكبر في مجال العلوم. أصبح اسمها فيما بعد مرادفًا للابتكار والتفاني، لكن خلف هذه الصورة اللامعة تكمن قصة امرأة عانت الكثير لتحقيق إنجازاتها العظيمة.
في كتاب “عبقرية مهووسة: العالم الداخلي لماري كوري” للكاتبة والمؤرخة باربرا غولدسميث، تُقدم لنا غولدسميث نظرة معمقة إلى حياة كوري بعيدًا عن الأساطير الشائعة. فالأسطورة التي صورت كوري كطالبة فقيرة جاءت من بولندا وحققت نجاحًا بفضل عبقريتها فقط، تُخفي وراءها حقيقة معقدة. يكشف الكتاب عن جوانب كثيرة من حياة كوري، تتجاوز مجرد الاكتشافات العلمية، لتشمل نضالها ضد التحيز المجتمعي والجنسي، والصعوبات المالية، والتحديات العائلية.
كان اكتشاف كوري للراديوم والبولونيوم إنجازًا ثوريًا في مجال الكيمياء والفيزياء. قادتها دراساتها حول النشاط الإشعاعي، الذي كان يُعتبر مفهومًا جديدًا آنذاك، إلى نيل جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903، وجائزة نوبل في الكيمياء عام 1911. بهذا أصبحت أول شخص يفوز بجائزتي نوبل في مجالين مختلفين. إلا أن هذا النجاح لم يُعفِها من التحيز الذي واجهته كامرأة في مجتمع علمي يهيمن عليه الذكور.
تعتمد غولدسميث في كتابها على بحوث أصيلة تشمل مذكرات كوري، ورسائلها، ومقابلات مع أفراد عائلتها، لتقديم صورة واقعية عن حياتها. تكشف هذه المصادر عن صراع كوري المستمر لتحقيق التوازن بين حياتها المهنية والعائلية، وعن التحديات التي واجهتها في تأمين التمويل لأبحاثها. فعلى الرغم من إنجازاتها العظيمة، لم تحظ كوري بالدعم المالي الكافي، وكانت دائمًا تبحث عن موارد لتمويل مختبرها وأبحاثها.
أحد الجوانب المهمة التي يبرزها الكتاب هو معاناة كوري من التحيز الجنسي. على الرغم من أنها أثبتت نفسها كعالمة بارعة، إلا أن الكثيرين في المجتمع العلمي لم يعترفوا بإنجازاتها بسبب جنسها. تعرضت للانتقادات والتشكيك، ولم يكن من السهل عليها الحصول على المناصب الأكاديمية أو التمويل اللازم لأبحاثها. هذا التحيز لم يكن محدودًا بالمجال العلمي فقط، بل امتد إلى المجتمع ككل، حيث كانت النظرة التقليدية للمرأة تُقيد من إمكانياتها وفرصها.
رغم كل هذه التحديات، لم تتوقف كوري عن السعي لتحقيق أحلامها. كانت تتعامل مع تجارب الحياة اليومية كأي إنسان عادي، وكانت تحاول التوفيق بين متطلبات العمل ومتطلبات الأسرة. كانت أمًا لابنتين، إيرين وإيف، وكانت تحرص على تربيتهما وتعليمهما. هذا التوازن الصعب بين العمل والعائلة كان يتطلب منها جهدًا مضاعفًا، خاصة في ظل الظروف القاسية التي كانت تعيشها.
يتناول الكتاب أيضًا الجانب الإنساني لكوري، وكيف كانت علاقتها بأفراد عائلتها وأصدقائها. تُظهر الرسائل والمذكرات الجانب العاطفي لكوري، وتُبرز كيف كانت تتعامل مع الفقد والحزن، خصوصًا بعد وفاة زوجها بيير كوري في حادث مأساوي. هذا الحادث كان له تأثير كبير على حياتها، ولكنه لم يُثنها عن مواصلة أبحاثها وتحقيق المزيد من الإنجازات.
في النهاية، يُعد كتاب “عبقرية مهووسة” باربارا غولدسميث عملًا مهمًا يُعيد تقديم ماري كوري كإنسانة، وليست فقط كعالمة. يُظهر الكتاب كيف أن الإصرار والعزيمة يمكن أن يتغلبا على التحديات والقيود المجتمعية. قصة كوري هي قصة نجاح وإنجاز، ولكنها أيضًا قصة معاناة وكفاح. يُعتبر الكتاب دعوة للتفكر في الدور الذي تلعبه المرأة في العلوم، وكيف يمكن أن تُساهم في تقدم البشرية رغم كل الصعوبات.
ماري كوري ليست مجرد رمز علمي، بل هي رمز للإصرار والقدرة على تحقيق المستحيل. قصتها تلهم الأجيال الجديدة من العلماء والعالمات، وتُثبت أن الشغف بالعلم يمكن أن يُحدث تغييرًا حقيقيًا في العالم.