عالمية الإسلام وشموليته

عالمية الإسلام: المفهوم، الأسس، والامتداد الحضاري

من بين الخصائص الجوهرية التي يتفرد بها الإسلام ويتميّز بها عن غيره من النظم الدينية والاجتماعية، خاصية العالمية، وهي سمة متأصلة في بنية العقيدة والشريعة الإسلامية، وليست مجرد بعد زمني أو مكاني طارئ. فالإسلام لم يُبعث لزمان أو مكان أو قومٍ معينين، وإنما أرسل الله به نبيه محمدًا ﷺ ليكون رحمة للعالمين، وخاتمًا للرسل، ودينه خاتمًا للرسالات، ورسوله مرسلًا إلى الإنس والجن كافة، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وأزمانهم. هذه العالمية ليست شعارًا دعويًا مجردًا، وإنما واقع فكري وعقائدي وتشريعي وسلوكي بُني عليه الإسلام منذ اللحظة الأولى.

أولًا: الأساس القرآني لعالمية الإسلام

يتجلى الأساس العقدي لعالمية الإسلام في النصوص القرآنية التي تُظهر شمول الدعوة المحمدية للناس جميعًا. قال تعالى:

“وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا” (سبأ: 28).

وقال أيضًا: “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا” (الفرقان: 1).

فهذه الآيات، وغيرها الكثير، تقطع بأن الإسلام ليس دينًا محليًا مرتبطًا بمجتمع معين كاليهودية التي اقتصرت على بني إسرائيل، أو النصرانية التي توجهت في بدايتها إلى قوم محددين، بل هو دين عام شامل.

كما أن الأحاديث النبوية تؤكد هذه المعاني، مثل ما رواه البخاري عن النبي ﷺ:

“وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة”.

فهذه الخصوصية للنبي محمد ﷺ – وهي العمومية في الدعوة – تبرز الفارق الجوهري بين الرسالة الإسلامية والرسالات السابقة.

ثانيًا: البعد الزماني والمكاني لعالمية الإسلام

عالمية الإسلام تعني شموله لجميع الأزمنة والأمكنة، فلا يقتصر على بقعة جغرافية، ولا يتحدد بعصر من العصور. فالإسلام لم يُبعث لفترة معينة ثم يُنسخ بعدها، بل هو الدين الخاتم، الذي يملك من المرونة والثبات ما يجعله صالحًا لكل عصر، ومكان، وإنسان.

إن رسوخ الشريعة الإسلامية، وقيامها على أصول ثابتة من العقيدة والعبادات، ومبادئ متغيرة في المعاملات تتماشى مع تطورات الحياة، يجعلها قادرة على التكيّف مع كل تحول، من دون أن تفقد هويتها أو تتخلى عن ثوابتها.

وقد جاء التشريع الإسلامي بأحكام عامة مجردة تصلح للتطبيق في بيئات متعددة. فعلى سبيل المثال، لم يحدد الإسلام شكلًا معينًا للحكم أو طريقة واحدة للإدارة، بل وضع المبادئ العامة: كالشورى، والعدل، والمسؤولية، والمحاسبة. كما لم يحدد نظامًا اقتصاديًا مغلقًا، بل أباح المعاملات ما لم تُخالف قواعد الشريعة، كتحريم الربا والاحتكار والظلم والغش. وهذا ما يجعل الشريعة الإسلامية شاملة ومتجددة، تتسع للمجتمعات البشرية مهما تنوعت.

ثالثًا: عالمية الرسالة في مضمونها ومقاصدها

تتجلى عالمية الإسلام أيضًا في مضمونه، لا فقط في نطاقه الجغرافي. فالدين الإسلامي يحمل في طياته دعوة شاملة لتحقيق كرامة الإنسان، وتحريره من عبودية البشر، وربطه بالخالق وحده. ومن هنا جاءت رسالة التوحيد: تحريرية في جوهرها، ترفع من قدر الإنسان، وتنزهه عن الخضوع لأي سلطان سوى سلطان الله.

الإسلام جاء بمبادئ عامة للعدل، والحرية، والمساواة، والرحمة، وحفظ الكرامة الإنسانية. وهذه المبادئ لا تتغير بتغير الأعراق أو الثقافات، بل هي مقاصد ثابتة ترعى مصالح الإنسان حيثما كان. ومن ذلك قوله تعالى:

“ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 70).

فالكرامة في الإسلام مبدأ إنساني شامل، لا يُقيّد بجنس، أو لون، أو مكانة.

ويؤكد النبي ﷺ هذه العالمية بقوله في خطبة الوداع:

“يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد… لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى”.

فهي دعوة لإزالة الحواجز العنصرية والطبقية، وإحلال مبدأ التفاضل القائم على العمل الصالح والتقوى.

رابعًا: الإسلام بين الخصوصية الثقافية والانفتاح العالمي

رغم أن الإسلام نشأ في بيئة عربية، إلا أنه لم ينغلق على ثقافة واحدة أو قومية معينة. بل نجد أن الرسالة الإسلامية قد استعانت بأدوات معرفية من حضارات متعددة، واستوعبت نظمًا وعادات، بعد تمحيصها في ضوء الشريعة. وعند دخول المسلمين إلى الشام والعراق ومصر وفارس وغيرها، لم يقفوا موقف الرافض لكل ما هو غير عربي، بل أخذوا ما يتفق مع الإسلام من علوم وفلسفات ونُظم، وأضافوا عليها بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا.

وقد نشأت حضارة إسلامية عالمية عابرة للأعراق والأقاليم، أسهم فيها العرب، والفرس، والهنود، والأتراك، والأمازيغ، وغيرهم، جميعهم انصهروا في بوتقة الثقافة الإسلامية، التي ظلت وفية لأصول الشريعة، ومنفتحة على الإبداع الإنساني.

لقد تجسدت عالمية الإسلام في هذا الامتزاج الثقافي، الذي أنتج حضارة راقية امتدت من الأندلس إلى الهند، تميزت بعلوم الطب، والفلك، والفلسفة، والعمارة، والاجتماع، والسياسة، والفقه، وكان لكل عنصر من عناصر الأمة الإسلامية دور في بنائها.

خامسًا: نماذج تاريخية لعالمية الإسلام

عبر التاريخ، كانت هناك نماذج عديدة تبرز عالمية الإسلام في الواقع، وليس فقط على مستوى التنظير:

1. انتشار الإسلام السلمي: لم ينتشر الإسلام بالسيف كما يدّعي بعض المغرضين، بل انتشر في مناطق كثيرة مثل جنوب شرق آسيا، وإفريقيا، وجنوب الهند، عن طريق التجار والدعاة والعلماء، الذين قدموا نموذجًا راقيًا في الأخلاق والتعامل، فدخل الناس في دين الله أفواجًا.

2. التعايش الديني: في الأندلس، وفي الدولة العثمانية، وفي فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، عاش المسلمون والمسيحيون واليهود والزرادشتيون وغيرهم في ظل دولة واحدة، يكفل فيها الإسلام حرية العقيدة، ويضمن لهم حقوقهم، مقابل التزامهم بالنظام العام وعدم الإخلال بالأمن.

3. الترجمة والانفتاح العلمي: في العصر العباسي، وبخاصة في بيت الحكمة ببغداد، ترجمت آلاف الكتب من اليونانية، والسريانية، والفارسية، والهندية، إلى العربية، ولم تكن تلك مجرد عمليات نقل، بل كانت مشاركة معرفية عالمية في جوهرها، حرّكت العجلة العلمية في الحضارة الإسلامية، وأثّرت في النهضة الأوروبية لاحقًا.

سادسًا: العالمية في الدعوة الإسلامية

الدعوة إلى الإسلام لم تُفرض بالقوة، بل قامت على مبدأ “لا إكراه في الدين” (البقرة: 256). كما دعا الإسلام إلى الحوار مع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال تعالى:

“ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (النحل: 125).

وبهذا، فإن الدعوة الإسلامية عالميّة في أسلوبها أيضًا، إذ تقوم على العقل والبرهان والاحترام المتبادل، وليس على القهر والاستعلاء.

كما أن تعدد اللغات والأعراق والثقافات لا يُعدّ مانعًا في الخطاب الإسلامي، بل هو من دلائل قدرة الله في الخلق، ومن أسباب التعاون والتعارف، كما في قوله تعالى:

“وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات: 13).

فلا تتعارض خصوصية كل ثقافة قومية مع شمولية الإسلام، بل تُثريه وتنوعه ضمن إطار وحدوي جامع.

سابعًا: عالمية الإسلام في العصر الحديث

لا يزال الإسلام يحتفظ بعالميته في العصر الحديث، رغم التحديات الكثيرة التي يواجهها. ففي ظل العولمة الثقافية، والانفتاح المعلوماتي، يتزايد اهتمام الناس بالإسلام، ويُسلم الآلاف سنويًا في أوروبا، وأمريكا، وآسيا. واللافت أن أغلب هؤلاء المسلمين الجدد يدخلون الإسلام بعد بحث حر واقتناع داخلي، لا نتيجة دعاية سياسية أو ضغوط اجتماعية.

وتؤدي المؤسسات الإسلامية في الدول غير المسلمة دورًا محوريًا في تأكيد هذه العالمية، من خلال التعريف بالإسلام، وتصحيح الصور النمطية المغلوطة، وتعزيز التفاعل الإيجابي مع المجتمعات المختلفة.

ومن جهة أخرى، تشهد الأمة الإسلامية في عصرنا عودةً إلى روح الإسلام الأصيلة، عبر تجديد الفكر الإسلامي، وتطوير مناهج الفقه، وتعميق فقه المقاصد، والتأكيد على القيم الكونية التي يحملها الإسلام.

جدول: مقارنة بين عالمية الإسلام وغيره من الأديان الإبراهيمية

ثامنًا: عالمية الإسلام بين الثوابت والمتغيرات

عالمية الإسلام تقوم على منهجية متوازنة بين الثبات والتغير. فهناك ثوابت لا تتغير، مثل التوحيد، وأركان الإسلام، ومبادئ الأخلاق، والعدل، والرحمة. وهناك متغيرات تتعلق بوسائل الدعوة، وأشكال الإدارة، والنظم الاجتماعية، تخضع لاجتهاد الفقهاء والمفكرين بما يتماشى مع المقاصد الكبرى للشريعة.

هذا التوازن بين الثابت والمتغير هو ما يمنح الإسلام صفة الخلود، ويُبقيه صالحًا لكل العصور والأمم، فيكون قادرًا على التأثير الحضاري الإيجابي المستمر.

المراجع:

• القرآن الكريم

• د. يوسف القرضاوي، الإسلام حضارة الغد

• د. فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون