عالمية الإسلام وأبعادها

عالمية الإسلام: مظاهرها وتجلياتها في العقيدة والحضارة والواقع الإنساني

تعد عالمية الإسلام من أبرز خصائص الرسالة المحمدية، وهي سمة متفردة جعلت من الإسلام ديناً يتجاوز حدود الزمان والمكان والعرق، ديناً يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان، وينفتح على مختلف الشعوب والثقافات دون أن يفقد هويته أو يتنازل عن أصوله. وقد تجلت هذه العالمية في نصوص القرآن والسنة، وفي تطبيقات الرسالة في صدر الإسلام، كما انعكست في الحضارة الإسلامية التي امتدت شرقاً وغرباً، وفي انصهار الشعوب داخل بوتقة واحدة من الأخوة الإيمانية.

إن الحديث عن مظاهر عالمية الإسلام ليس ترفاً فكرياً بل هو تفكيك علمي لجانب جوهري من طبيعة الرسالة الإسلامية التي انطلقت من مكة لكنها لم تتوقف عند حدود الجزيرة العربية، بل ارتادت الآفاق، وتجاوزت الحواجز الجغرافية واللغوية والقومية، لتخاطب البشرية كلها بخطاب التوحيد والعدالة.

أولاً: عالمية الإسلام في النص القرآني

من أبرز المظاهر التي تبرز عالمية الإسلام هي الإشارات المتكررة في القرآن الكريم إلى شمولية الرسالة، فقد جاءت الآيات القرآنية مؤكدة أن محمدًا ﷺ رسول إلى الناس كافة، لا إلى العرب وحدهم، ولا إلى قوم مخصوصين. يقول تعالى:

﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا﴾ [سبأ: 28]

ويقول سبحانه:

﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا﴾ [الأعراف: 158]

وهذه الصيغة “يا أيها الناس” تتكرر عشرات المرات في القرآن، مشيرة إلى أن المخاطَب ليس فئة معينة بل الناس جميعًا.

إن هذه الآيات تضع حدًا فاصلًا بين الإسلام وغيره من الرسالات السابقة التي كانت محصورة في أقوام معينين، يقول الله تعالى:

﴿وإلى عاد أخاهم هودًا﴾، ﴿وإلى ثمود أخاهم صالحًا﴾، أما محمد ﷺ، فقد بُعث للناس كافة، مما يؤكد عالمية دعوته.

ثانيًا: عالمية الإسلام في العقيدة

عقيدة الإسلام تقوم على التوحيد الخالص، الذي لا يرتبط بجنس أو لون أو لغة. فالله تعالى هو رب العالمين، لا رب قوم دون قوم، ولا رب شعب دون آخر، قال تعالى:

﴿الحمد لله رب العالمين﴾ [الفاتحة: 2]

التوحيد هو القاسم المشترك الذي يوحّد بين الناس جميعًا في أصل الخلق والعبادة، ولهذا فإن الإسلام لا يعترف بتمييز عنصري في العقيدة، ولا يربط الإيمان بلون أو نسب أو ثقافة، وإنما يربطه بالعقل والإرادة والتصديق.

عالمية العقيدة الإسلامية أيضاً تتجلى في تكريم الإنسان بوصفه إنساناً، بغض النظر عن أصله، قال الله تعالى:

﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ [الإسراء: 70]

ثالثًا: عالمية الشريعة الإسلامية

الشريعة الإسلامية تتميز بالمرونة والقدرة على مواكبة الزمان والمكان، فهي لا ترتبط بواقع جغرافي معين، ولا بزمن محدد، بل هي شريعة صالحة لكل زمان ومكان. وقد أودع الله فيها من المقاصد والمصالح ما يجعلها قادرة على الاستجابة لحاجات الإنسان المتجددة.

وقد أُسست هذه الشريعة على مبادئ عامة تصلح للبشرية كافة، كتحقيق العدالة، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم، والتكافل الاجتماعي، وإقامة العدل، وصيانة الكرامة الإنسانية، وهي مقاصد لا تتغير بتغير الأجناس والثقافات.

ولذلك فإن الشريعة الإسلامية ليست منظومة قانونية قومية، بل هي نظام عالمي يخاطب الناس في كل مكان، ويعالج مشكلاتهم ضمن إطار من الرحمة والحكمة.

رابعًا: عالمية الأخلاق في الإسلام

الإسلام لم يجعل الأخلاق حكرًا على أمة دون أخرى، بل دعا إلى مكارم الأخلاق وجعلها من تمام الإيمان، ومن مقاصد البعثة النبوية، حيث قال النبي ﷺ:

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»

وهذه الأخلاق مثل الصدق، والعدل، والرحمة، والتواضع، والأمانة، والتسامح، وغيرها من القيم الإنسانية العليا، ليست مرتبطة بثقافة معينة، بل هي قيم عامة يشترك فيها البشر، ولذلك جعلها الإسلام من أسس التعامل بين الناس على اختلاف أديانهم وثقافاتهم.

خامسًا: عالمية الأمة الإسلامية

من أبرز مظاهر عالمية الإسلام ما نراه في تركيبة الأمة الإسلامية ذاتها، فهي أمة متعددة الأعراق واللغات، لكنها تنصهر في وحدة عقدية تجعل منها جسدًا واحدًا، مصداقًا لقول النبي ﷺ:

«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد»

ففي صلاة واحدة كصلاة الحج، يجتمع المسلمون من مختلف أنحاء العالم، لا يجمعهم نسب أو لون، بل يجمعهم الإيمان بالله والولاء للرسالة المحمدية، وهو مشهد لا نظير له في أي أمة أخرى.

وهذه الوحدة الإيمانية ليست فقط شكلية، بل تنعكس في التعاون والتكافل، وفي توجيه الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وفق مبدأ “الأمة الواحدة”.

سادسًا: عالمية الخطاب الحضاري الإسلامي

الحضارة الإسلامية قامت على أساس الانفتاح على الشعوب الأخرى، واستيعاب علومهم، وإعادة إنتاجها ضمن إطار إسلامي. فلم تكن حضارة منغلقة، بل كانت عالمية بطبيعتها، جذبت إليها العلماء من العرب والفرس والهنود والروم والأقباط والبربر، وانصهرت كل هذه الثقافات داخل الحضارة الإسلامية الكبرى.

ولذلك نجد أن العلوم الإسلامية كتبها علماء من أجناس مختلفة، كتبوا بالعربية كلسان مشترك، لكنها كانت عطاءً عالميًا، يُترجم الآن إلى مختلف لغات العالم.

وقد ساهمت الحضارة الإسلامية في نهضة أوروبا من خلال الأندلس وصقلية، ونقلت العلوم والطب والفلسفة والرياضيات والآداب إلى الغرب، مما يؤكد الطابع الكوني لعطاء الإسلام.

سابعًا: مظاهر عالمية الإسلام في العصر الحديث

رغم التحديات، فإن الإسلام لا يزال يحافظ على عالميته في العصر الحديث، وذلك من خلال:

• الانتشار الجغرافي: حيث ينتشر الإسلام اليوم في أكثر من 180 دولة، ويشكل المسلمون ثاني أكبر ديانة بعد المسيحية، كما أن عدد معتنقي الإسلام في تزايد مستمر خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية.

• اللغة العربية كلغة دينية: حيث يوحد القرآن المسلمين على مستوى اللغة، فيتجه أكثر من مليار ونصف مسلم إلى تعلم العربية لفهم دينهم، وهو ما يعزز الوحدة الروحية والثقافية بين المسلمين.

• المؤسسات الإسلامية العالمية: مثل منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، والتي تكرس الخطاب الإسلامي العالمي، وتدير شؤون المسلمين في مختلف أنحاء العالم.

• المفكرون والدعاة العالميون: الذين ينشرون الإسلام بأساليب علمية وإنسانية تتجاوز الحدود الثقافية، ويقدمونه كحل لمشكلات الإنسان المعاصر من الفراغ الروحي والتفكك الاجتماعي.

ثامنًا: التعددية والاحترام المتبادل

الإسلام، رغم عالميته، لا يهدف إلى فرض ثقافته على الآخرين، بل يعترف بالتعددية، ويقر بحق الآخرين في حرية المعتقد، مصداقًا لقوله تعالى:

﴿لا إكراه في الدين﴾ [البقرة: 256]

وقد عاش غير المسلمين في كنف الدولة الإسلامية على مر العصور، وتمتعوا بحقوقهم الدينية والاجتماعية، وكانوا شركاء في بناء الحضارة.

جدول توضيحي: مقارنة بين الرسالات الإلهية في مدى شمولها

المصادر والمراجع

1. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، بيروت.

2. يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، دار الشروق.