طلعت حرب: رائد النهضة الاقتصادية الحديثة في مصر

مقدمة

يعد طلعت حرب باشا أحد أبرز الرموز في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمصر الحديثة، ومؤسس فكرة الاستقلال الاقتصادي الوطني في مواجهة السيطرة الأجنبية التي كانت تخنق كل قطاعات الدولة في أوائل القرن العشرين. لم يكن طلعت حرب مجرد مصرفي أو رجل أعمال، بل كان مفكراً ومصلحاً ومجددًا رأى أن الاستقلال السياسي لا يكتمل إلا بالاستقلال الاقتصادي، وأن النهضة الحقيقية لأي أمة تبدأ من تحرير اقتصادها وتمكين شعبها من أدوات الإنتاج. لقد كانت مساهمته الجوهرية في تأسيس بنك مصر سنة 1920 وما تبعها من شركات ومؤسسات اقتصادية مصرية صرفة، تمثل خطوة ثورية غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث.

النشأة والتكوين

وُلد محمد طلعت بن حسن محمد حرب في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1867، في حي الجمالية بالقاهرة، لأسرة متوسطة من الطبقة الوسطى ذات جذور تركية. تلقى تعليمه في المدارس المصرية، ثم التحق بمدرسة الحقوق الخديوية وتخرج منها عام 1889. خلال سنوات دراسته، أظهر نبوغًا ملحوظًا واهتمامًا واسعًا بالشؤون العامة والاقتصاد والسياسة، مما شكل الأساس لرحلته الفكرية والعملية لاحقًا.

بعد تخرجه، التحق بالعمل في الدوائر الحكومية، وخصوصًا في “مجلس الأوقاف الأعلى”، حيث بدأ يكتسب خبرة في الإدارة والشؤون المالية. وقد ساعده عمله في هذه المؤسسة على فهم طبيعة الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها مصر تحت سيطرة الاحتلال البريطاني.

البيئة السياسية والاقتصادية في مصر آنذاك

خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني، وكان الاقتصاد المصري يخضع لهيمنة الشركات والبنوك الأجنبية، خاصة البريطانية والفرنسية. لم يكن هناك قطاع صناعي وطني حقيقي، وكانت البنوك الأجنبية تتحكم في حركة الأموال والاستثمارات، بينما كان المصريون يعانون من الفقر والبطالة والحرمان من الفرص الاقتصادية.

وقد أدرك طلعت حرب هذا الواقع بدقة، فعمل على تحليل أسباب التدهور الاقتصادي والاجتماعي، وتوصل إلى قناعة بأن التحرر الوطني لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحرر الاقتصادي. ومن هنا بدأ ينادي بضرورة إنشاء مؤسسات اقتصادية وطنية يديرها ويمولها المصريون أنفسهم، بعيدًا عن الاستثمارات الأجنبية.

طلعت حرب والفكر الاقتصادي الوطني

كان طلعت حرب يتمتع برؤية اقتصادية متقدمة، تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:

1. التحرر من التبعية الاقتصادية: اعتقد أن الاستقلال السياسي لا يمكن أن يُترجم على أرض الواقع ما لم يكن مصحوبًا باستقلال اقتصادي يمكن المصريين من السيطرة على مقدراتهم.

2. التصنيع الوطني: دعا إلى إنشاء صناعات وطنية من أجل تقليل الاعتماد على السلع الأجنبية، وخلق فرص عمل للمصريين، وتعزيز الدورة الاقتصادية الداخلية.

3. تمصير رأس المال: نادى بإنشاء بنك وطني يموّل المشروعات الوطنية، ويكسر احتكار البنوك الأجنبية لرأس المال والاستثمار.

وقد نشر طلعت حرب العديد من الكتب والمقالات التي تناولت هذه الأفكار، مثل كتابه “علاج مصر الاقتصادي”، و”مصر وقناة السويس”، والتي شرح فيها رؤيته لبناء اقتصاد وطني مستقل.

تأسيس بنك مصر

في عام 1920، تم تتويج جهود طلعت حرب بتأسيس “بنك مصر”، الذي يعد أول بنك مصري وطني خالص التمويل والإدارة. كانت الفكرة ثورية في ذلك الوقت، حيث كانت البنوك العاملة في مصر كلها أجنبية، ولا تسمح بتمويل المصريين أو مشاريعهم الخاصة.

وقد بدأ بنك مصر برأس مال بسيط يبلغ 80 ألف جنيه مصري، جمعه من تبرعات المصريين على اختلاف طبقاتهم، حتى أن كبار الملاك والتجار والعمال ساهموا في هذا المشروع الذي اعتبروه رمزًا للاستقلال والكرامة الوطنية.

لكن أهمية بنك مصر لم تتوقف عند كونه مؤسسة مصرفية، بل أصبح حاضنة للعديد من المشاريع الاقتصادية الكبرى في مختلف القطاعات، مثل:

• شركة مصر للغزل والنسيج

• شركة مصر للطيران

• شركة مصر للتمثيل والسينما

• شركة مصر لصناعة الورق

• شركة مصر للتأمين

وبذلك أصبح بنك مصر حجر الأساس لنهضة صناعية وتجارية وثقافية غير مسبوقة في مصر الحديثة.

مساهماته في الإعلام والثقافة

أدرك طلعت حرب منذ البداية أهمية الإعلام والثقافة في بناء الوعي الاقتصادي والسياسي، لذا قام بإنشاء عدد من المؤسسات الإعلامية والثقافية التي ساهمت في تعزيز الهوية المصرية. ومن أبرز مساهماته في هذا المجال:

• تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما: والتي أنشأت استوديو مصر عام 1935، وكان من أوائل المؤسسات السينمائية في العالم العربي.

• دعم الصحافة الوطنية: شجع على إنشاء جرائد ومجلات وطنية تتناول قضايا المصريين وتروج لفكرة الاستقلال الاقتصادي.

وبفضل هذه الجهود، ساهم طلعت حرب في نشوء صناعة سينمائية وإعلامية مصرية وضعت مصر في موقع الريادة الثقافية والفنية في العالم العربي.

مواقفه السياسية والوطنية

رغم أنه لم يكن من السياسيين التقليديين، فإن طلعت حرب كان وطنياً من الطراز الأول، وشارك في الحياة العامة عبر طرح رؤى ومشاريع اقتصادية تصب في مصلحة الاستقلال الوطني. دعم ثورة 1919 ووقف إلى جانب سعد زغلول وحزب الوفد في مواجهة الاحتلال البريطاني، لكنه اختلف معهم لاحقًا عندما رأى أن الخلافات السياسية تعرقل عملية البناء الاقتصادي.

لم يكن طلعت حرب يسعى إلى منصب سياسي، بل رأى أن خدمة الوطن يمكن أن تتم عبر الاقتصاد والتعليم والعمل، وليس فقط عبر البرلمانات والمجالس النيابية. وكان شديد الإيمان بأن بناء وطن قوي لا يتم إلا بتضافر الجهود بين المواطنين كافة.

الجدول الزمني لأهم إنجازاته

الإرث الذي تركه طلعت حرب

رغم أن طلعت حرب توفي عام 1941، فإن إرثه لا يزال حيًا في الاقتصاد المصري حتى اليوم. فالمؤسسات التي أنشأها استمرت لعقود، وخلقت آلاف الوظائف، وأسست لثقافة اقتصادية وطنية قائمة على الإنتاج والاعتماد على الذات. كما ألهمت تجربته أجيالاً من المفكرين ورجال الأعمال والسياسيين، وكان لها دور كبير في تشكيل الوعي القومي المصري.

أصبحت سيرة طلعت حرب رمزًا للنجاح والإخلاص الوطني والعمل المؤسسي بعيدًا عن المصالح الشخصية، وقد خلدت الدولة المصرية ذكراه بإطلاق اسمه على ميادين وشوارع رئيسية، كما أُقيم له تمثال في وسط القاهرة، تخليدًا لعطاءاته وإنجازاته.

الخاتمة

إن الحديث عن طلعت حرب لا يمكن اختزاله في كونه مؤسس بنك مصر فقط، بل هو نموذج فريد لرجل آمن بقدرات شعبه، وكرّس حياته لخدمة وطنه من خلال العمل والإنتاج والفكر الحر. جسّد مفهوم الاقتصاد المقاوم، وأرسى دعائم الاستقلال الحقيقي، فكان بذلك من رواد النهضة الاقتصادية والثقافية في مصر. لا تزال أفكاره وإرثه حاضرة في الوجدان المصري، تشكل حجر الزاوية لكل مشروع وطني جاد يسعى إلى النهوض بالبلاد على أسس من العمل والتنمية والاستقلال.

المصادر:

• محمد سيد أحمد، طلعت حرب: صانع الاقتصاد الوطني، الهيئة العامة للكتاب، 2002.

• خالد عزب، بنك مصر والاقتصاد القومي، دار نهضة مصر، 2018.