طلب العلم فريضة إسلامية

معنى حديث “طلب العلم فريضة” ودلالاته في الشريعة الإسلامية

حديث “طلب العلم فريضة على كل مسلم” يُعدّ من الأحاديث النبوية التي تحمل في طيّاتها عمقًا تشريعيًا وفكريًا كبيرًا، لما يتضمّنه من دعوة صريحة ومباشرة إلى طلب العلم، وجعله فريضة وواجبًا شرعيًا على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى. لم يكن العلم في الإسلام مجرّد وسيلة للمعرفة الدنيوية أو وسيلة للترقي الاجتماعي فحسب، بل هو في أساسه عبادة، وسلوك روحي وعقلي يجعل الإنسان أقرب إلى فهم نفسه وخالقه ومجتمعه. وهذا المقال يتناول تفسير هذا الحديث النبوي، وأبعاده اللغوية والشرعية، وموقعه ضمن السياق الإسلامي العام، ومكانة العلم في الإسلام من خلال نصوص الشريعة وسير العلماء.

الحديث ومصدره

الحديث كما ورد في بعض كتب السنة هو: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وقد رواه ابن ماجه في سننه، وقال عنه بعض أهل العلم بأنه حسن، بينما رأى آخرون أنه ضعيف من حيث السند، لكنه صحيح من حيث المعنى، وقد أشار الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة إلى أن الحديث “مشهور على الألسنة” ومعناه متفق عليه في الشريعة الإسلامية. قال الإمام النووي: “هذا الحديث ضعيف، ولكن معناه صحيح”، وقد أقر العلماء بوجوب طلب بعض أنواع العلوم، واعتبروه فرضًا على المسلم لا يكتمل دينه إلا به.

معنى “طلب العلم فريضة”

التفسير اللغوي

كلمة “طلب” في اللغة تعني السعي وراء الشيء، والمثابرة على تحصيله، ولا يُطلق هذا الوصف إلا على من جدّ واجتهد في تحقيقه. أما “العلم”، فهو نقيض الجهل، ويشمل كل معرفة يقينية تؤدي إلى الفهم والإدراك. و**”الفريضة”** تعني الواجب اللازم، الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه. وبالتالي، فإن الحديث يقرر أن السعي وراء تحصيل العلم هو فرض عيني على كل مسلم.

التفسير الشرعي

طلب العلم ينقسم إلى قسمين من حيث الحكم الشرعي:

1. فرض عين: وهو ما لا يُعذر أحد بجهله، كالعقيدة، وأحكام الطهارة، والصلاة، والصيام، وأساسيات الحلال والحرام. فالمسلم مطالب بمعرفة ما يُقيم به دينه ويعبد الله على بصيرة.

2. فرض كفاية: وهو العلم الذي إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين، كعلوم الطب، الهندسة، الفلك، الحِساب، والعلوم الشرعية المتخصصة كعلوم الحديث والفقه وأصول الدين.

العلوم التي يشملها الحديث

الحديث لا يقصر الفريضة على العلم الشرعي فقط، بل يمتد إلى كل علم نافع يخدم الفرد والمجتمع. فالعلم في الإسلام ليس مقتصرًا على علوم الفقه والقرآن والحديث فقط، بل يشمل كذلك علوم الطب، الزراعة، السياسة، الاقتصاد، الفلك، وحتى التكنولوجيا الحديثة، ما دامت هذه العلوم تُسهم في إعمار الأرض، وتخدم مصالح الناس، وتساعد على تحقيق مقاصد الشريعة.

وقد قال الإمام الشاطبي في الموافقات: “إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، وعليه فإن تعلم العلوم الدنيوية التي بها يُقام الدين وتُبنى الحضارة هو جزء لا يتجزأ من الفريضة الإسلامية.

أهمية العلم في الإسلام

1. أول ما نزل من الوحي

في دلالة لا تخفى على المتأمل، كان أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى:

“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” [العلق: 1]، وهذه الآية الكريمة تجعل من القراءة، وهي وسيلة العلم الأولى، مفتاحًا للدين والوحي والمعرفة.

2. تكرار ذكر العلم في القرآن

ذُكر العلم ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من 750 مرة، وهو عدد يدل على مركزية العلم في النص القرآني. قال تعالى:

“قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” [الزمر: 9]، وهذه الآية تضع ميزانًا للتفاضل بين الناس قائمًا على العلم، لا على المال أو النسب.

3. رفع أهل العلم درجات

قال الله تعالى:

“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” [المجادلة: 11].

وفي هذه الآية بيان لقيمة العلم في ميزان الله، إذ جعله سببًا لرفع الدرجات.

الجدول التالي يوضح تصنيف العلوم في الإسلام حسب نوعها وحكم طلبها:

مكانة العلماء في السنة النبوية

قال رسول الله ﷺ:

“من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة” [رواه مسلم].

وهذا الحديث يؤكد أن العلم ليس وسيلة دنيوية فقط، بل طريق إلى الجنة، ودرب إلى الله، وأن طالب العلم يُثاب على كل خطوة يخطوها.

كما جاء في الحديث الشريف:

“فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب” [رواه الترمذي].

وهذا التشبيه البياني يدل على أن العالم يُضيء للناس طريقهم كما يُضيء القمر ظلام الليل، وأن نفعه متعدٍ لا محدود.

دور المؤسسات العلمية في إحياء معنى الحديث

إن مفهوم “طلب العلم فريضة” لا يتحقق بشكل شامل إلا عبر مؤسسات تعليمية قوية ومؤهلة، تبدأ من المدارس الابتدائية وصولًا إلى الجامعات، مرورًا بالمعاهد الشرعية والمراكز البحثية. ولا بد من تكاتف الجهود الرسمية والأهلية لدعم العلم والعلماء، وتوفير البيئة المناسبة للبحث العلمي، وتكريم أهل العلم وتمكينهم من أداء دورهم في المجتمع.

وتاريخ الحضارة الإسلامية يشهد على اهتمام المسلمين بتأسيس المدارس، والمكتبات العامة، ودور العلم كـ”بيت الحكمة” في بغداد، و”دار الحكمة” في القاهرة، و”المدرسة النظامية” في نيسابور، وغيرها من مؤسسات كانت مركزًا للإشعاع العلمي في العالم.

أثر العلم على حياة الفرد والمجتمع

العلم هو ما يُمكّن الإنسان من فهم واقعه والتعامل مع متغيراته. فالعلم يحصّن الإنسان من الوقوع في الشبهات والبدع، ويمنحه بصيرة في أمور دينه ودنياه. والمجتمع الذي يجعل من العلم أساسًا في خططه وتوجهاته، هو مجتمع متقدم، متماسك، مستقل في قراراته، ومحصّن من الجهل والخرافة والتبعية.

وقد أثبتت دراسات حديثة في مجال التنمية أن الدول التي تستثمر في التعليم والعلم تحقق نموًا اقتصاديًا ومعرفيًا أكبر بكثير من الدول التي تهمل ذلك، وأن مؤشر التعليم يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمستويات العدالة الاجتماعية، والصحة العامة، والاستقرار السياسي.

العلماء بين الوراثة النبوية ومسؤولية التبليغ

جاء في الحديث الشريف:

“إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” [رواه الترمذي].

هذا الحديث يجعل من العلماء امتدادًا لوظيفة النبوة في تعليم الناس وتربيتهم وإرشادهم. فهم ليسوا فقط حملة معرفة، بل حراس للضمير الديني، ومصلحون في المجتمع، ومصابيح هدى في زمن الفتن والجهل.

ومع هذه المكانة، فإن مسؤوليتهم عظيمة، فهم مسؤولون عن تبليغ العلم، ونشره، وتصحيحه، ومواجهة تحريف الجاهلين وغلو الغالين وتأويل المبطلين.

العلاقة بين طلب العلم والتقوى

قال الله تعالى:

“إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” [فاطر: 28].

وهذه الآية توضح أن العلم الحق يولّد خشية صادقة لله، بخلاف العلم الذي يُستخدم في الجدل والمراء والترف العقلي. فالعلم في الإسلام مرتبط بالتقوى، لا ينفك عنها، وهو سبيل إلى تهذيب النفس لا إلى الغرور أو الاستعلاء.

الخاتمة: بناء أمة العلم

حديث “طلب العلم فريضة على كل مسلم” ليس مجرد توجيه أخلاقي أو حث تربوي، بل هو مبدأ حضاري يشكّل العمود الفقري لأي نهضة. فبالعلم تنجو الأمم من الانهيار، وتحقق استقلالها، وتستعيد دورها الريادي في العالم. إننا في عالم اليوم بأمسّ الحاجة إلى العودة لهذا الحديث، لا على سبيل التقديس المجرد، بل من خلال تفعيل مضمونه العملي، وبناء مؤسسات تعليمية تنهض على أساسه، واستراتيجية وطنية تُعيد للعلم هيبته ولمكانة العلماء اعتبارهم.

المراجع:

1. السخاوي، “المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة”، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دار الكتب العلمية.

2. الشاطبي، “الموافقات في أصول الشريعة”، تحقيق مشهور آل سلمان، دار ابن عفان.